محمود درويش.. ما كان يَنضب

TT

لا أحد يغفل التصاق الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش بالقضية الفلسطينية، والتصاقها به، وهنا كم يبدو المثقف ثابتاً في تعبيره عن قضية أو حدث، وكم يبدو السياسي طارئا على الرغم من أنه صاحب الفعل على أرض الواقع، وعلى وجه الخصوص إذا كان ذلك المثقف شاعراً، من حجم محمود درويش، الذي تمكن من ناصية الشعر بنوعيه أو أنواعه الكُثرُ. صحيح، أن ذاكرة التاريخ حفظت للخليفة محمد المعتصم بالله (ت 227 هـ) حدث المعمورية، وأن امرأة استغاثت به عن بُعد فجيش الجيوش لصوتها، لكن على مدى قرون ظل بيت أبي تمام حبيب بن أوس الطائي (ت 231 هـ) هو الشاخص الباقي من الحدث، أما الحكاية فتقبل الزيادة والنقصان: «السَّيف أصدق أنباء من الكُتبِ.. في حده الحدِ بين الجَد واللعبِ». ولا نريد للأزمان العودة، ولكن القصيدة شاهدة على خلود الزمن بالشاعر وليس العكس!

قلما خرج محمود درويش، الذي ذهب مبكراً معتصراً من تداعيات قضيته، عن شيطانه أو ملهمه الشعري، إن صح التعبير، وهي فلسطين، حتى لو طرق أغراضاً أُخر من الشعر تراها بائنة في قصيدته، وما كان ينضب مازالت فيه حشاشة. ظل منذوراً لها وصوتها الصادح. مثل قضية فلسطين وما هنَّ بحجمها، قد تخلق الزعامات، وتُنشئ الأحزاب، وتؤسس العقائد، لكنها عاجزة بمكان عن خلق شاعر مطبوع. لذا لا يجب أن تُقرن ولادته شاعراً بحدث، مهما كان حجمه، فيكون مثل غيره من الظواهر التي يُوجدها الحدث، وقد تغيب بغيابه!

تجتمع لمحمود درويش القصيدة ونبرة الصوت، وهما بالنسبة للمتلقي العربي، والشرقي عموماً، تتمكنان من الألباب، فهو مازال كائناً سامعاً يتذوق الصوت أكثر من الكلمة المكتوبة، وعلى وجه الخصوص في مجال مثل مجال الشعر. قد تغيب الديَّار عن الذاكرة فيُرجعها صوت الشاعر، وهو وحده القادر من بين المبدعين التهويل في الأشياء، فكم عَظمت نُهيرات وترع وبقاع جرداء في داخل القصائد، فكيف إذا كانت القصائد تعرض لمدن وسواحل كانت مسرحاً لحكايات مقدسة وذاكرة أنبياء مثل التي ترويها قصائد درويش!

ليس الموت، هو الذي يجعلنا نعدُ لدرويش المناقب، وإن كان الأمر في الرثاء كذلك: «أذكروا محاسن موتاكم». بيد أن حقيقة الأمر الرجل لم يُتاجر، ولم يزد فيه الهتاف الثوري الموسمي كعباً، ولا حدة التصفيق نفخاً. استمر متوازناً، يظهر ملهباً العواطف، في حين، ويتوارى منكسراً أحياناً أُخر. ظل صوته صادحاً وذمته بريئة من الشائبة، وكم من الشائبات تعلقت بأذيال الكثيرين، حتى فُقد بريق القصائد، وانزلقت إلى هاوية لا ترتفع منها بعد.

مع أن ضخامة محمود درويش الإبداعية لم تنسه تواضعه ليعترف لمثل هؤلاء بفضل وسابقة. عندما سمعت بغياب محمود درويش تذكرت لحظة سماعي بنبأ محمد مهدي الجواهري، وكأني لا أريد للشاعر الغياب الذي لا مفرَّ منه، وإن بلغ من العمر عتياً كالجواهري، ذلك للتداخل في ذاكرتي بين الأوطان والشعراء، فاليتم ليس للبشر والكائنات الحيَّة حسب، إنما الأرض تشعر بفقد شاغلها والحافظ لذاكرتها، ومثلما لا تصيب الأرض شيخوخة، ولا تنضب من مد العروق بالحياة، كذلك الشعراء المطبوعون.. لا يشيخون ولا ينضبون، إلا أن قلب محمود درويش لم يمكنه من المراهنة!