من يملك المال.. الأمة أم الوطن ؟

TT

في الثاني من هذا الشهر، نشرت جريدة «القدس العربي» تصريحات لمراقب جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، الدكتور همام سعيد، طالب فيه دول الخليج النفطية بتقديم المساعدات المالية للجياع والمحرومين من المسلمين.

ودعا سعيد في تصريحه دول الخليج لأن «تؤدي حق الله في أموالها للجياع والمحرومين من المسلمين الذين لا يجدون لقمة الخبز ولا شربة الماء ولا وقودا للتدفئة والكهرباء، وليسوا بعيدين عن منابع الثروة النفطية». واعتبر أن «من حق الأمة على حكامها أن يشركوها في هذه الخيرات والثروات، ولا أقل من سد الرمق».

وقبل ذلك بأشهر معدودة تناقل الإعلام فتوى صادرة عن مجمع البحوث في الأزهر تطالب بفرض قيمة 20% من إيرادات البترول بوصفها زكاة «ركاز» أي كنوز مدفونة بالأرض، حسب اللغة الفقهية. وكان المفكر الإسلامي المصري، محمد عمارة، قبل ذلك بقليل، قد دعا إلى إنشاء صندوق إسلامي لزكاة «الركاز» لكي تنتفع به الدول الإسلامية الأقل دخلا من جهة، ويجنبها من جهة أخرى الخضوع لشروط الإقراض «المجحف» من جانب مؤسسات النقد الدولية.

ما يجمع بين هذا الخبرين، ومثلهما كثير، هو شعور مسبق وأساسي لدى من أطلق هذه المطالب، أو نظر لها، أو أعطاها طابعا دينيا فقهيا، هو أن هناك فريقا من «الأمة» قد استأثر بالمال بدون بقية الأمة، أو الأهل، وأن هذا الاستئثار، نقيصة وسلوك غير وفي للأهل والأمة، الأمر الذي يستدعي العتب، إن لم يكن الغضب، ووصم هذا المستأثر بالإثم وفقدان الحس الإنساني تجاه «الأمة» ـ حسب تعبير همام سعيد.

وهذا الشعور، وإن اكتسى طابعا دينيا لدى الإخوان المسلمين أو مجمع بحوث الأزهر، إلا أنه شعور ملحوظ وعام لدى بقية العرب غير الخليجيين، ولا أقول غير النفطيين، لأننا نرى النبز بثروة النفط وعرب النفط يطلق ضد الخليجيين، من جهات هي نفطية في عماد اقتصادها مثل ليبيا !

إنه شعور يلعب على وتر العنصرية العربية الداخلية المبطنة، إذ كيف يثري القدر سكان الصحراء القاحلة والجهلة الغلاظ الذين لم ينزلوا عن ظهور الإبل إلا بالأمس القريب والذين لم يعرفوا الثقافة والحضارة ولم يخترعوا الأبجدية الفينيقية، ولا العجلة السومرية، ولا المسلة المصرية، ولم يعيشوا على ضفاف الأنهر الخالدة أو يمخروا عباب الأبيض المتوسط، بل كانوا منسيين في الفناء الخلفي لعرب الماء والحضارة، ثم وفي غفلة من الجميع نرى هؤلاء الجهلة يملكون المال والجاه والآن: البزنس والعلم والعالم، إن ذلك لشيء عجاب!

هنا، وفي هذا المنحنى من الشعور، يلتقي الإسلامي بالعلماني، والمسلم بالمسيحي، في إدامة النظر لهذا النفط اللعين، والشعور التلقائي بأنه لا يجوز تركه في أيدي هؤلاء الناس لوحدهم، بل لا بد من الاشتراك فيه بشكل أو بآخر، فهو «نفط العرب» وليس نفط «دولة» الكويت، أو «دولة» الإمارات، أو «دولة» السعودية، هذه الدول التي هي في المعنى القانوني دول كاملة السيادة على أراضيها وثرواتها ومقدراتها، ولها الحق، هي فقط، في التصرف بما لها، وإن شاركت في إغاثة أو مساعدة أو إقراض، فهذا قرار سيادي يخضع إما لمصلحة سياسية أو تلبية لنداء إنساني أو مساعدة ذات طبيعة خاصة، بدون أن يكون ذلك من باب طبائع الأشياء وبديهيات الأمور، لأنه فعلا ليس من طبائع الأشياء ولا بديهيات الأمور.

ماذا لو أن دولة مثل الأردن تعاني من شح المياه طالبت مصر وبشكل مماثل لما تطالب به دول الخليج من تأدية «حق الله» تجاه الأمة في نفطها، ماذا لو أنها، الأردن، طالبت مصر بحصة من حق الله في ماء النيل؟ أو طالبت دولة فقيرة، مثل موريتانيا، ليبيا بحصة من حق الله لها في نفط الجماهيرية الذي هو ملك للأمة جمعاء؟

باستمرار، وبسبب ميوعة مفهوم الدولة الوطنية، ونفاق، أو قناعة وايديولوجيا، بعض المثقفين الخليجيين، وخوف ومجاملة بعض الحكومات الخليجية، كان هذا الغموض في تبيين أن ثروات الدول هي ملك لها ولشعوبها ومرصودة، او يجب أن تكون كذلك، للإنفاق على التنمية الداخلية ورفع مستوى المعيشة والتعليم والطبابة والخدمات لشعوب هذه الدول، وصولا إلى اللحظة التي يبنى فيها الإنسان الخليجي بناء كاملا وجاهزا للسباحة في أمواج العصر الصعب، وأيضا أن هذا الإنفاق للمال خارجيا، يجب أن يكون مفيدا للدول، إما سياسيا أو اقتصاديا أو وقائيا، من باب إطفاء الأزمات المجاورة في مهدها حتى لا يصل لهبها إلى الدول الخليجية، وهذا شيء طبيعي ولا يجب أن ينظر إليه بشكل استهجاني، فمصالح الشعوب والدول، منذ القديم، هي محرك السياسات الحقيقية، وليس المجاملات العاطفية أو الشعارات التي تدغدغ الشارع.

دول الخليج الآن، وفي هذه الطفرة النفطية، تعاني أيضا، وليست صحيحة هذه الصورة المغلوطة التي يرسمها بعض العرب عن سكان هذه المنطقة من أن أحدهم يمشي ورزم المال تتناثر من جيبه، وأنه يعيش في رخاء ورغد، هذه صورة ساذجة، بل وضارة، الم يشكو كثير من مواطني الخليج من أزمة انقطاع الكهرباء في عز «آب اللهاب» كما حصل في الكويت وفي السعودية ؟ نعم أزمة انقطاع كهرباء، وأزمات توظيف حادة وقبول في الجامعات؟ ألم تحصل أزمات في تضخم الأسعار والسلع والخدمات؟ ألا توجد بيوت صفيح يسكن فيها الفقراء والمعدمون في السعودية؟ ألا توجد عوائل لا تجد قوت يومها في الكويت وتعيش على إعانات «أهل الخير»؟.. وهكذا، إنهم شعوب، لديهم مشكلات معيشية، مثل غيرهم، بل ومع انفجار السكان، وارتفاع مستوى الوعي والانفتاح الإعلامي، أصبح لدى الكثير من الخليجيين ما يقولونه تجاه الوضع الاقتصادي والتنموي في بلدانهم، ومنهم من ينتقد الإعانات الخارجية الكثيرة ويطالب بالالتفات أكثر للداخل.

نقول ذلك رغم أن دولا مثل السعودية، بالدرجة الأولى، أو الكويت أو الإمارات، او حتى قطر، أنفقت بسخاء من الجهد والسمعة السياسية والمال، الكثير من المال، لدول عربية مثل لبنان من أجل إقالته من عثرته الخالدة، وكف أيدي زعمائه عن الشجار، ولكن أصبح المساعدون مثل الشعير: مأكول ومذموم، ليخرج لنا احد أقطاب المعارضة اللبنانية ـ المشهور بقدراته على تعطيل الحلول ـ أخيرا ويقول إنهم بحاجة أكثر للمال العربي وبدون منة !

كم أنفقت الدول الخليجية من المال تجاه مشكلة فلسطين ولبنان فقط ؟ وليت ذلك أثمر شيئا، على العكس لقد أكل كثير من الأشقاء، ولا أقول كلهم، المال، ولعنوا صاحبه، وعادوا إلى هوايتهم المفضلة: التغني بالقضية، وشتم العرب المتخاذلين.

بكل حال، فإن إنفاق المال الخارجي لإطفاء أزمة أو إصلاح مشكلة، هو أمر ضروري، وجزء أساس من متطلبات الأمن القومي الشامل، وليس في هذا منّة ولا نقاش، المشكلة هي في لعبة الشعارات والابتزاز المبطن، هذا هو الجانب الدعائي الديماغوجي الذي يمارسه بعض من استفاد حقا من هذا المال، ثم يمثل أمام الجماهير المسكينة أن الأشقاء خانوا القضية وتركونا للضياع .

كل دولة مسؤولة عن نفسها، ولا يحاسبها أحد على ثرواتها إلا شعبها فقط، أما الغير فلا يجوز أن يجعلوا من أنفسهم شركاء بشكل آلي في ثروة لم يكونوا من أهلها، كما لا يجوز لدول الخليج ان تجعل من ثروات ومياه وتاريخ وحضارات الأشقاء، ملكا لها، فقط لأنهم وإياهم عرب أو مسلمون، حقيقة بسيطة وبديهية، ولكن معضلة هذه المنطقة من العالم هي نسيان البديهيات.

[email protected]