انتصار الديمقراطية في تركيا!

TT

في الوقت الذى تمت فيه عملية الإطاحة برئيس الجمهورية المنتخب في موريتانيا من خلال انقلاب عسكري وتنهي بذلك تطورا هاما نحو الديمقراطية في العالم العربي؛ كانت تركيا تحكم من خلال المحكمة الدستورية العليا باستمرار شرعية الحزب الحاكم بأغلبية ضئيلة (7 إلى 6) ولكنها كانت كافية لانتصار الديمقراطية واستمرارها في تركيا. والمقارنة هنا ليست ما بين الفشل في ناحية والنجاح في ناحية أخرى، ولكنها توضيح وشرح لجوهر «السياسة» والكيفية التي تتطور بها المجتمعات من خلال عملية دقيقة ومعقدة وحرجة في أغلب الأحوال تختلط فيها وتتوازن الدولة والمؤسسات والمجتمع في حركة مستمرة. وما جرى في تركيا كان في حقيقته نوعا من «المجاهدة» مع النفس وكبح جماح التطرف والنظر بعين الاعتبار إلى المستقبل ليس بمعناه الزمني ولكن بمعناه الاجتماعى.

فليس صحيحا أن النظام الديمقراطى يأتى من خلال قرار فوقي تتخذه مجموعة النخبة السياسية والاجتماعية وتحوله إلى إجراءات ومؤسسات وعمليات انتخابية تتحدد فيها العلاقة بين الأغلبية والأقلية. ولكن ذلك دائما هو الجزء الأسهل من العملية السياسية رغم أنه يرتبط أحيانا بحروب وثورات وصراعات دموية؛ أما الجزء الأصعب فهو أن يصبح ذلك كله عملية مجتمعية لا تحدث من دون عملية مجاهدة للغرائز المضادة للآخرين المختلفين والمعارضين، والتعصب للآراء والمذاهب والمعتقدات. وفي الولايات المتحدة رغم الإحكام الشديد في الدستور الأمريكي، والتوازن الدقيق بين السلطات، وما بين الحكومة الفيدرالية وسلطات الولايات، ولكن كل ذلك لم يمنع استمرار «العبودية» لأكثر من تسعة عقود بعد الاستقلال، وحتى بعدها فإن أمريكا احتاجت قرنا كاملا من أجل إقرار الحقوق المدنية، وبعد أربعة عقود أخرى تم انتخاب باراك أوباما الأسود مرشحا رئاسيا للحزب الديمقراطى. وحتى رغم كل هذه التطورات، و«المجاهدة» الشديدة للنفس داخل الشخصية الأمريكية، فإن واحدا من أهم الأسئلة المثارة حاليا في الولايات المتحدة هو: هل الأمريكيون جاهزون لقرار انتخاب رئيس أسود أو من أصول أفريقية كما يحبون الوصف؟!

مثل هذه المجاهدة الطويلة لم تجر في موريتانيا لا في المؤسسة العسكرية، ولا في المؤسسة المدنية، ولا في المجتمع؛ وما جرى لم يزد عن كونه مجاهدة شخص واحد من العسكريين قرر، بشجاعة، التخلي عن السلطة، ووضع نظام ديمقراطي، وإجراء انتخابات نجحت وأصبحت موريتانيا تعيش ما قيل أيامها عن «العرس الديمقراطي». ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي جرى فيها مثل هذا العرس حينما تخلى اللواء سوار الذهب عن السلطة وسمح بانتخابات ديمقراطية صارت عرسا هي الأخرى وكان سودانيا في تلك المرة. ولكن «العرس» لم يستمر طويلا في الحالتين لأن القضية في الديمقراطية ليست في «الاحتفال» والعرس، ولكن ماذا يفعل الجميع في الدولة والمجتمع بهذا المولود الجديد، وكيف يتعاملون مع نتائجه. وفي الفكر السياسي العربي المعاصر هناك حديث كثير حول ضرورات الديمقراطية، وهناك حديث أكثر عن أشكال إقامتها، ولكن هناك القليل جدا عما سوف نفعله بهذه الديمقراطية التي هي في الأول والآخر نظام سياسي عليه أن يلبي مطالب المجتمع، ويدير توازناته وصراعاته والخلافات بين مصالحه. وكان ذلك هو ما فشل فيه النظام السياسي الجديد في موريتانيا حينما ركز رئيس الجمهورية على الشكل الذي يمنحه الحق في الإطاحة بالقيادات العسكرية؛ ولكن المضمون كانت له علاقة كبيرة بالمجاهدة للذات والسلطات القانونية حيث كانت المؤسسة العسكرية قد تخلت توا عن بعضا من سلطاتها ومصالحها، وكان مستحيلا عليها أن تتخلى بعد ذلك وبهذه السرعة عما هو أكثر. وحدث كل ذلك بينما المجتمع الموريتاني صامت، فقد أعطيت له السلطة ثم سلبت منه بسهولة، لم يكن هناك تعليم ديمقراطي، ولم تكن هناك مصالح ديمقراطية، ولم تكن هناك عملية مجاهدة سياسية لنوازع السيطرة والهيمنة الكامنة في جماعات متنافسة.

مثل ذلك لم يحدث في تركيا لأن سلسلة من أعمال «المجاهدة» والمقاومة للغرائز والنوازع السلبية والمطامح جرت خلال العقود الماضية؛ فنتيجة حلم اللحاق بالغرب والمجتمعات المتقدمة كان على العسكر الأتراك الكثير من المجاهدة التي تدفعهم بعيدا عن السلطة، بل ان الاقتراب من عضوية الاتحاد الأوروبي جعل المجاهدة مضاعفة حتى بات ممكنا لحزب العدالة والتنمية أن يصل إلى السلطة وينتخب لها مرتين. ولكن النجاح في الانتخابات لا يعنى أن الديمقراطية قد استقرت على الضفاف التركية، بل انه يعني في الحقيقة بدايتها حيث كان على العسكر ـ حراس النظام المدني والعلماني ـ أن يراقبوا ليس فقط أداء الحكومة والسلطة، بل ومعها أداء الحزب الحاكم وعما إذا كان يمارس الحكم أو يمارس عملية تغيير المجتمع والدولة لكي تصبح دولة دينية لا يكون فيها للمواطن إلا بعد واحد هو البعد الديني ومعه تنتهي المواطنة والولاء للدولة. وكما هى العادة فإنه في معظم الأفكار السياسية فإن بعضا من أجنحتها يميل إلى التطرف والأصولية، ومن ثم كان التحالف العلماني في أركانه المدنية والعسكرية يميل إلى البحث عن طريقه لإنهاء حكم حزب له مرجعية دينية وتصرفات دينية أيضا. ولكن هنا يأتي نضج المجتمع السياسى، فالتطرف لا يقود إلى انقلاب، وإنما يقود إلى المؤسسات وفي القلب منها المحكمة الدستورية العليا حيث توجد فرصة للمراجعة و«المجاهدة» أيضا.

وكان ذلك هو ما جرى تحديدا، فالديمقراطية التركية نضجت في ما وراء قدرة العسكر على الانقلاب، وحتى في ما وراء قدرة المحكمة الدستورية على القيام بانقلاب دستوري، فما قرره الشعب في النهاية خلال عملية تصويت حرة لا ينقضه القضاة. ولكن المسألة كان لها وجهها الآخر، فالقضية ليست فقط الحفاظ على كلمة الشعب، وإنما أيضا العمل بحيث لا تستغل كلمة الشعب في إنهاء إرادته والعبث بقدرته على الاختيار باستخدام الدين أو القومية أو أي من المذاهب التي تفصلها عن الشمولية مسافات قصيرة. ولذلك فإن المحكمة الدستورية العليا في تركيا حكمت من جانب آخر على حزب العدالة والتنمية بالحرمان من بعض التمويل الحكومي في مجموعة من الأمور التي رأت المحكمة وبأغلبية 10 إلى 1 أنها لا تشكل نشاطا دينيا وإنما نشاطا سياسيا يستخدم الدين لأغراض سياسية. وكانت النتيجة النهائية هي أن حزب العدالة والتنمية تقبل الحكم، وربما معه الدرس أيضا.

لقد دخلت تركيا الاختبار الصعب وخرجت منه بنجاح كبير، فلا يوجد نجاح سياسي قدر ما يحدث عندما تخرج الأطراف الأساسية في النظام السياسي لبلد ما وقد تعلمت أمرا، وأصبحت في العموم أكثر تواضعا وفهما لطبيعة السياسة وما تقوم عليه من توازنات. وفي هذه المعركة عرف الجيش أن القيود الخارجية والشرعية الداخلية لم تعد تسمح بما كان يجرى في السابق من انقلابات عسكرية حتى ولو كانت على الطريقة التركية. وعرفت المحكمة من جانب آخر أن هناك حدودا لا ينبغى لها أن تتعداها من ناحية، كما أن عليها واجبات لا تستطيع التخلي عنها من ناحية أخرى. وفي النهاية فإن حزب العدالة والتنمية ربما عرف الدرس الذي على كل حركات الإخوان المسلمين أن تتعلمه، وهو أن هناك فارقا كبيرا بين الحزب السياسي، والجماعة الدعوية، ولا يمكن للحزب أن يخلط بين الأمرين.

ولكن المستفيد الأكبر مما جرى على دقته والتوتر الذي أذاعه هو المجتمع السياسي التركي، الذي راقب الديمقراطية وهي في حالة الممارسة تحت ضغوط وتدافعات يمكنها أن تمزقها من ناحية لو انفلت العيار، ولكنها يمكنها أن تفيدها وتنضجها من ناحية أخرى إذا عرف الجميع نعمة الحدود والتواضع. وفي كل الأحوال فإن ذلك شكل خطوة كبيرة إلى الأمام جرى فيها التعميد الديمقراطي من خلال الاقتراب من الخطر والخروج منه. فالديمقراطية في النهاية ليست «عرسا» يجري ليلة واحدة وبعدها تسير الأمور إلى انفصال وطلاق، وإنما هي حياة كاملة تكون للمشاركة فيها آلامها أحيانا، ولكن استمرارها وازدهارها واجب على الجميع. ومن المؤكد أن كثرة في البلاد العربية تستطيع أن تتعلم الكثير من تركيا!!