هل تعرف كم غيابك حميم؟

TT

بادئة: كان يفترض أن أكون أول من ينحني في وداع محمود درويش. لكن ثورة التقنيات وتعذر الاتصال بين القارات، جعل المقال التالي يظهر اليوم بدل الاثنين الماضي.

دخل محمود درويش البيوت مثل أشعة الشمس ومثل أشعة القمر. وأميرا اقتحم النفس العربية. وعلى مدى أربعين عاما كان هو جمال القضية الوحيد وماسها الشفاف وقصيدتها الرقراقة. يتنازعون فيعتلي ويتهافتون فيتعالى ويهبطون فيسمو. لم أكن أدري أن محمود درويش ولد في بيت فقير، إلا عندما قرأت نعيه في بعض الصحف. فمنذ تعرفت إليه قبل 35 عاما وله صورة واحدة، صورة الفارس النبيل الذي لا يشكو شيئا ولا أحدا ولا يغتر ولا يفاخر ولا يتذمر ولا يغضبه شيء أو أحد إلا الغباء والثقلاء.

كان شيئا من قصيدة وشيئا من ابتسامة. ومثل القصيدة كانت الابتسامة مولودة ومثلها سوف تبقى. بالكثير من الرقة قال أقسى القول. بالكثير من البساطة أعلن أعمق المواقف. ناحلا عطوبا هادئا علَّم العرب صلابة المقام. لكنه علَّم ومضى. وقد مضى حاملا خندقه، الخندق المصوغ من آيات القدس وزنابق الغور، خندق الحبر الأعظم من الدم.

كم كنت أميرا يا فتى. عطرا كالبخور وحادا كالصدق. وديعا كالتواضع وأنوفا كالشرف، حانيا كطرف ثوب الأم ومصلتا كصراخ الأمهات.

قافلات من نايات الأمة لم يبق لنا سوى رجع صداها. موكب الضرائح الماسية: السياب وأنت. نزار وأنت. الماغوط وأنت. أساطير بسيطة من الفرات وبردى وجبل الكرمل. يا زنبقة القضية يا محمود. موت نبيل مؤنس مثل حياتك. كم هو فراقك شخصي وحميم. كم هو رائق ونقي مثلك ومن حوله بخور. بعض القوافل تمضي وبعضها جذور. لموتك جذور السنديان.