عروبة المغرب اختيار أمازيغي

TT

في الخمسينيات كتب ع.ك. غلاب في مجلة «العالم العربي» بالقاهرة للمرحوم أسعد حسني، مقالا بعنوان: «المنابع الرئيسية للثقافة المغربية» جاء فيه: «نحن عرب وبربر من الجنس السامي الذي انتقل إلى هذه البلاد مهاجرا من الجزيرة العربية وأطرافها... واحتفظنا بالطابع الذي طبعنا به الإسلام والعربية كدين ولغة وحضارة... ونحن أيضا على طرف بارز من القارة الأفريقية، في الأبيض المتوسط وأوربا».

كانت خلف هذا الكلام رغبة في تدقيق أمور هي دائما بديهية بالنسبة للمغاربة، ولكن يغيب عن البعض أن عروبة المغرب اختيار وراءه إرادة. وأن المغرب قد أقبل على اعتناق العروبة وهو حامل لجينات تميزه. وهذا ما حمل علال الفاسي على أن يسجل أن «القومية المغربية موجودة منذ القديم، فيما قبل الإسلام وبعده، نجدها مبثوثة في كل آثار وفيما بين أيدينا من الآثار المكتوبة».

لذا لا يكتشف شيئا جديدا من يقول بالبعد الأمازيغي في الشخصية المغربية. الجديد حقا هو الأولوية التي أصبحت للمسألة اليوم، حيث أقدمت الدولة على تأهيل المجال الثقافي، حتى يعكس التعددية الثقافية والعرقية للمغرب. فهناك منذ سبع سنوات، معهد مهمته «الحفاظ على الثقافة الأمازيغية والنهوض بها في جميع تعابيرها».

وأمكن قطع خطوات لتدارك التهميش الذي تعرضت له الثقافة الأمازيغية. وقد تعرضت في مناسبتين على أعمدة «الشرق الأوسط» لهذه المسألة مبرزا أنه بسبب عوامل التطور العمراني والاجتماعي، وبفضل خطة للحسن الثاني رحمه الله، كانت النخبة الإدارية والاقتصادية والسياسية، دائما تعكس التنوع العرقي في البلاد. و التهميش الذي طال الجهات النائية بالبلاد، وهي بدورها متنوعة عرقيا، يمكن من القول إن ذلك لم يقع لفائدة عنصر على حساب عنصر غيره، بل بسبب سياسة فاسدة ووجود أسبقيات أخرى غير العدالة في التوزيع. فالتهميش كان عاما، وكذلك أبواب الامتيازات كانت مفتوحة لمن هو قريب من دوائر القرار.

إلا أنه بحكم أن المسائل المرتبطة بالهوية هي بطبيعتها تفرز نزاعات غير عقلانية، ولنستحضر كلام إبن خلدون عن العصبية، فإنه لا مفر من أن تطفو على السطح مقولات تتسم بالمبالغة وأن تنزلق النقاشات، بل والمجادلات، إلى بعض المزايدات وشيء من النزق.

وهناك في البيئة السياسية المغربية الحالية ما يتيح ذلك. أولا بسبب الانفتاح الإعلامي الذي جعل كل ذي قول لا يجد ضيرا في إبداء قوله، مهما كان شاذا، أو غير مبني على منطق سليم. والثاني هو أنه حينما يعوز المنطق، تبرز مقولات ومواقف يكون الاستفزاز المصاحب لها مقصودا لذاته، لأنه الوسيلة السهلة لاحتلال مكان في الشاشة.

وقد رأينا أشياء من هذا القبيل، ومنها القول إن السياسات الفرنسية التي لخصها ما عرف بـ«الظهير البربري»، كان غرضها الدفاع عن الثقافة البربرية. ومعلوم أن الظهير المرسوم المشار إليه الذي سن في 16 مايو 1930، كان يهدف إلى حصر التعامل في مناطق بعينها على أساس العرف القبلي والتشريعات الفرنسية دون الشريعة الإسلامية. فهذا شيء واضح جدا، ولكن هناك من يريد الآن أن يقول لنا ـ وقد ورد هذا في بحث جامعي نال عنه صاحبه درجة الدكتوراه ـ إن ما يقرب من ثمانين سنة من تاريخ النضال الوطني مبني على وهم.

وأضيف إلى ذلك اختلاق معركة ضد العرب، واستنكار أي ميزة إيجابية لأي شيء عربي، في أي مجال. وهذا لم يوجد مثله إلا في الخمسينيات من القرن الماضي، حينما تبرم الفرنسيون من الدعم الذي كنا نلقاه من إخواننا المشارقة. وأيضا الترويج حاليا لمقولة ملتبسة عن «الشعوب الأصلية»، مع الاستقواء بالدول الأجنبية وتحريضها على المغرب بحكم أنه يضطهد البربر، وتفضيل الصلة مع إسرائيل، على العرب الدخلاء.

وبدأت مؤخرا حملة على مقترح قانون يروج في البرلمان المغربي، يرمي إلى الاقتصار على استعمال اللغة الرسمية وحدها في مخاطبة الإدارة للجمهور، بدلا من استعمال الفرنسية. وهذا أمر لا علاقة له باضطهاد الأمازيغية، التي هي ليست بمستهدفة بل الفرنسية.

إن التهويل يكثر حينما تنقص الحجج، و الصراخ يعلو حينما ينقص المنطق. ولا ينتظر أن يكون للتصعيد الحالي مردود لأن الصيغة التي ضبطت حياتنا الوطنية طيلة قرون لا بد أن تصمد في النهاية. والعقلانية التي سادت حياتنا غالبا هي التي ستبز الشعارات السطحية. وقبل هذا فإن الشعب المغربي بصدد معالجة ملائمة لشؤونه ومنها المسألة الأمازيغية. وهي معالجة جديرة بأن توصلنا إلى الغاية. والجميع يتقبل أن النهوض بالأمازيغية هو مطلب للأمة وليس لفئة.

طيلة التاريخ تمسك المغاربة باستقلاليتهم، ومن جهة أخرى حرصوا على الآصرة العربية كاختيار ثقافي وليس بعرقي. ويقول التاريخ إن العرب الذي قدموا مع الفتح كانوا بضع مئات. وأن أكبر هجرة عربية تمت على عهد ملك بربري هو يعقوب المنصور الموحدي. وظلت الأمازيغية لغة حية، لم يزحها الإسلام عن مكانها، حتى حينما اختار المغاربة العربية لسانا لهم. وكانت أسر حاكمة أمازيغية هي التي قررت تعريب لغة الإدارة، في عهود كل من المرابطين والموحدين والمرينيين.

كان يخطب باسم يوسف بن تاشفين في مناطق شاسعة من جبل طارق إلى السنغال ومن المحيط الأطلسي إلى الجزائر. ثم اتسع حكمه إلى طليطلة شمالا. وأما على عهد الموحدين فقد أصبح يخطب باسم سلطان المغرب على 1009 منبر، في رقعة جغرافية تقطع في ثلاثة شهور مشيا على الأقدام كما أورد الباحثان طارو في «أزهار البساتين».

لقد دعت مصلحة الحكم المتمركز غالبا في مراكش، إلى اختيار اللغة العربية كلغة تواصل مع أجزاء الإمبراطورية المغربية التي أصبحت متعددة الأعراق، وللتواصل مع أنداد تلك الأمبراطورية في المجتمع الدولي، الذين كانوا بدورهم يلوذون بالعربية لأنها كانت لغة العلم والاقتصاد.

يحكى عاشور الهبيل في كتاب عن والده المرحوم البكاي الهبيل، أول رئيس حكومة للمغرب المستقل، أن هذا الأخير، أيام كان ضابطا في الجيش الفرنسي بسوريا، عاش تجربة طبعت حياته ومشاعره بعمق، واحتفظ بها في ذاكرته كشيء لا ينسى. ذلك أنه وهو في البريد بدمشق، ملأ مطبوعا باللغة الفرنسية، فاندهش لذلك موظف البريد، ودعاه إلى أن يحرره بالعربية، واكتشف الضابط الشاب أن العربية تستعمل أيضا في تلك الأغراض العملية. وأيقظ ذلك في نفسه غيرة ثقافية ونخوة وطنية أرجعته إلى جذوره العميقة. ومن ذلك الوقت قرر أن يعلم أولاده اللغة العربية مهما كان الثمن.

فلماذا وكيف اعتبر ذلك اليزناسني الأمازيغي أن العربية تخاطب أعماقه. الجواب أوجده أجدادنا، منذ قرون، وهو أن انتماءنا إلى مجموعة، مع احتفاظنا بتميزنا بل «بقوميتنا»، كما عبر علال الفاسي، أمران متناغمان، إذ بذلك يكون لنا عمق، ويمكننا أن نطور شخصيتنا في أفق أرحب من مجرد كيان محصور فيما بين خطي الطول 1° ،56 (وجدة) و 15°،56 (الداخلة). كما أنه انتماء يؤمن لنا التضامن في السراء وفي الضراء، من لدن مجموعة يجمعها بنا شعور القرابة والتراحم. ففي ضائقة 140 دولارا للبرميل، لم يوجد من يشفق على المغاربة «من مازغ ويعرب» إلا بلدان عربيان.