محمود درويش.. المشاكس الذي بقي في قلب الحالة الفلسطينية

TT

الآن وقد أصبحت سيرة محمود درويش، بعد أن توفاه الله، على كل لسان، وامتلأت الصحف وشاشات الفضائيات بصوره عندما كان لا يزال شاباً يشبه نبتة ريحان (حبق) فتية، وبعد أن أنهكه قلبه وأنهكته القضية الفلسطينية، فإنه ربما لا يعرف كثيرون أن أشعاره ودواوينه منعت في دمشق في نهايات عقد ستينات القرن الماضي، والسبب أنه كان ومعه سميح القاسم، ضمن وفد شبيبة الحزب الشيوعي الاسرائيلي «راكاح»، الذي شارك في مهرجان الشبيبة العالمي، الذي أقيم في صوفيا عاصمة بلغاريا في عام 1968.

كانت الثورة الفلسطينية في تلك الفترة في ذروة عنفوانها وكان العرب، إن لم يكن كلهم فمعظمهم، لا يفرقون بين الحزب الشيوعي الاسرائيلي «راكاح» وحزب «حيروت» الصهيوني، رغم أن هذا الحزب، أي «راكاح»، كان في ذلك الوقت المبكر هو الحركة الوطنية لأهل الأرض المحتلة منذ عام 1948، وكان ينضوي في إطاره خيرة أبناء الجليل والناصرة وعكا وحيفا ويافا، وفي مقدمتهم المبدعون سياسياً وأدبياً، توفيق زياد وأميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم.

كانت نظرة العرب، ومن بينهم بعض الفلسطينيين، إلى فلسطينيي الداخل، أهل الأرض المحتلة منذ عام 1948، في ذلك الحين تتسم بالشك والريبة، وكان الانتساب لحزب اسرائيلي، حتى إن كان حزب «راكاح»، الذي هو في حقيقة الأمر حزب فلسطيني، إن تنظيماً وإن أهدافاً ومنطلقات سياسية، يعتبر جريمة ما بعدها جريمة، وكان أي لقاءٍ مع أحد قادة هذا الحزب يُنظر إليه على أنه إقامة علاقات مع جهة إسرائيلية ـ صهيونية!

قبل مهرجان الشبيبة العالمي، الآنف الذكر، كان محمود درويش قد وصل إلى دمشق وبيروت القاهرة والعواصم العربية، التي وصلها عبر قصائده المبكرة، التي كانت تسربت من الداخل الفلسطيني، الذي كان ولا يزال اسمه اسرائيل، بشق الأنفس. وكان المعنيون والمتابعون قد تعرفوا على هذا الشاعر الصاعد من خلال قصيدته الشهيرة:

سجِّل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف

وأطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف

هذه القصيدة التي ملّها صاحبها ولم يعد يطيق سماعها ليس لأنه لم يعد يؤمن بالمعاني السياسية التي تضمنتها، بل لأنه أصبح في مرحلة شعرية أرقى، ولأنه تجاوز تجربة الشعر الخطابي المباشر، وانتقل إلى فضاءات أرحب من الدائرة الفلسطينية المحصورة، وبات يركز على الرمزية والبعد الإنساني، وعلى الأسلوب الروائي الذي بات واضحاً وملموساً في كل قصائده في مراحل ما بعد بدايات سبعينات القرن الماضي.

قبل مهرجان صوفيا، الذي كان نقطة فاصلة بين محمود درويش ودمشق (العروبة) ولو إلى حين، كان هذا الشاعر الفلسطيني الذي سطع نجمه بعد ليل طويل في أعقاب نكبة عام 1948، قد أصبح ظاهرة في دمشق وفي العواصم العربية الأخرى، وكانت قصيدته التي ردّ فيها على هزيمة يونيو (حزيران):

.. يمّا مويل الهوى... يمَّا مويليا..

.. ضرب الخناجر.. ولا حكم النذل فيّا..

قد أصبحت نشيداً لكل الذين أوجعت قلوبهم هذه الهزيمة النكراء، والذين تخلوا عن الرهان على الأنظمة الثورية العربية، وفي طليعتها نظام ثورة يوليو، أي نظام عبد الناصر، وتحولوا إلى الرهان على المقاومة الفلسطينية، التي لم تكن بعد قد عانت من السلبيات التي عانت منها في فترات لاحقة.

ذهب محمود درويش الذي لم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره إلى صوفيا، في إطار وفد شبيبة حزب (راكاح) إلى مهرجان الشباب العالمي، الذي كان في حقيقة الأمر مهرجاناً شيوعياً تُدعى إليه بعض الأحزاب الحاكمة وغير الحاكمة، التي تصنف على أنها يسارية وتقدمية، وهناك وجد عداءً مكشوفاً من قبل وفد حزب البعث (السوري)، مع أن هذا الحزب بعد حركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط) 1966، كان يعتبر نفسه ويعتبره الآخرون يسارياً ويدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق والدول الاشتراكية والشيوعية التابعة له.

ربما ان محمود درويش لم يعرف، رغم القطيعة التي لمسها خلال مهرجان الشباب العالمي هذا، أن دمشق أصدرت قراراً رسمياً بمنع قصائده ودواوين شعره، وأن حزب البعث فصل الكاتب الفلسطيني فيصل الحوراني المقيم حالياً في النمسا من عضويته، لأنه تجرأ واتصل بشبيبة الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، ولأنه التقى هذا الشاعر الفلسطيني وزميله سميح القاسم على هامش هذا المهرجان، الذي كان يتكرر سنوياً ويُقام كل عام في إحدى العواصم «الشيوعية» أو «التقدمية».

وبالطبع فإن هذا الإجراء الذي اتخذته دمشق ضد شعر محمود درويش وإبداعاته لم يستمر طويلاً، فقد اتسعت دائرة الأفق لاحقاً، وقد فرض هذا الشاعر الفلسطيني الكبير نفسه في المراحل اللاحقة على الشارع العربي كله، وعلى الأنظمة كلها، بما في ذلك الأنظمة التي ناصبت الحالة الفلسطينية وناصبت ياسر عرفات العداء، وبقيت تعمل وهي لا تزال تعمل على شق صفوف الفلسطينيين وتدمير منظمة التحرير الفلسطينية.

كانت لمحمود درويش ملاحظات كثيرة على المسيرة الفلسطينية خلال المرحلة البيروتية وقبلها وبعدها، لكنه بقي دائماً وأبداً في الإطار الشرعي الفلسطيني ولم يخرج منه على الإطلاق، رغم انه لم يحتمل أن يبقى أميناً عاماً للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وأنه بادر بعد اتفاقيات أوسلو إلى الاستقالة من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

كان محمود درويش أكبر من كل المناصب، بما في ذلك المناصب الثورية والوطنية، وكان دائم الحضور في كل المحطات والمنعطفات الرئيسية الفلسطينية، فهو انحاز انحيازاً كاملاً إلى الشرعية الفلسطينية، عندما تعرضت لتلك الهجمة الشديدة المعروفة بعد إخراج عرفات ومنظمة التحرير من بيروت في عام 1982، وهو الذي صاغ خطاب (أبو عمار) الذي ألقاه أمام الأمم المتحدة في عام 1974، وهو الذي صاغ أيضاً إعلان الاستقلال الذي صدر عن دورة المجلس الوطني الفلسطيني، التي عقدت في عام 1988 في الجزائر، وهو الذي أشرف على إعداد الخطاب الذي ألقاه الدكتور حيدر عبد الشافي في مؤتمر مدريد الشهير، باعتباره رئيس وفد منظمة التحرير إلى هذا المؤتمر.

لم يكن محمود درويش متفرجاً عن بعد بالنسبة للمسيرة الفلسطينية، التي شهدت خلال العقود الأربعة الأخيرة تطورات وتقلبات ومنعطفات كثيرة، فهو كان دائماً وأبداً في قلب المعمعة، وهو كان يحظى باحترام كل القيادات الفلسطينية، وهو كان رغم مشاكساته ورغم مزاجيته في بعض الإحيان حبيب «أبو عمار»، وهو لم يُسَّجل عليه أي انحياز إلى أي نظام أو قائد عربي على حساب قضيته، وهو كان يبقى قريباً حتى عندما يبتعد وهو كان في طليعة العائدين إلى فلسطين بعد اتفاقات أوسلو، ولم يستكنف بحجة الحرص على النقاء الثوري كما فعل كثيرون غيره.

لم يكن محمود درويش في كل مسيرته الحافلة، منذ أن كان شاباً مراهقاً يتسلق أسوار عكا ليلاً ليرى صورة معشوقته على صورة القمر المنعكسة على سطح مياه بحر فلسطين وحتى عاد إلى الوطن، الذي أعطاه حياته، محمولاً على أكتاف الرفاق، إلا صادقاً مع نفسه ولذلك فإنه كان في طليعة العائدين بعد اتفاقيات أوسلو، ولذلك فإنه عاد إلى حيفا لينام في جفونها ولليلة واحدة قبل رحيله النهائي... سيبقى محمود درويش حاضراً في الخيال الفلسطيني والعربي حضور الجليل وعكا.