بكين الشيوعية.. الرأسمالية

TT

عهدي ببكين منذ عام 1996، حيث كانت آخر زيارة لي في رحلات للصين زادت عن 10 مرات تابعتُ فيها كيف تتحول الصين، هذا البلد المارد، الى قوةٍ اقتصادية عملاقة تستفيق وتستثمر قوتها العددية بطريقة لافتة في صياغة مستقبل لا يمتلك المراقب إلاّ النظر اليه بكل الإعجاب، رأيتُ كيف تفتح الصين مصاريع أبوابها أمام موجة الانفتاح، التي أرسى أول أفكارها زعيمها دينج هسياو بنج، الذي أدرك اتجاه الريح التي ستهب على آسيا، بل وعلى العالم كله، فوضع السفينة بذلك الاتجاه الواعد، ورأيتُ أيضا كيف تستخدم الصين أيضا كل ما تمتلك من مفاتيح لفتح الأبواب الموصدة بوجه منتوجها الذي بدأ يتنوع في كل ما يحتاجه البشر، من مأكلٍ ومشرب ومسكن وملبس، ليكتسح عالم السلع بغزوٍ لا قبل لكل الصناعة به، وأصبح كل بيت في العالم تقريبا لا يخلو من منتج صيني ثابت أو متحرك فيه. وآخر ما بهرت الصين العالم به هو افتتاح الأولمبياد التاسع والعشرين في مشهدٍ كرنفالي رائع أمتعَ الحضور وملايين المشاهدين، في حفلٍ امتزجت فيه التكنولوجيا بالعدد البشري، وسيُرهق أولمبياد لندن القادم 2012 لمحاكاة جزء منه.

هذا المارد الذي استطاع، ليس فقط أن يُطعم 1300 مليون من البشر، بل أصبح يُصدّر جزءا من طعامه على شكل علب تنوعت لدرجةٍ عجيبة وصلت حتى لخلطة الفول المدمس.

ما يراه الزائر لبكين هو هذا التصميم والتنفيذ السريع لمتطلبات العولمة، في غضون عقدٍ من الزمن، في كل زوايا حياة الصين من بشرٍ وأنظمة وقوانين وخدمات وبنى تحتية، فبينما كنا سابقاً نضطر لاستخدام مترجمين من الصينية للإنجليزية بأجرٍ يومي، انتشر تعليم اللغة الإنجليزية بطريقة لافتة، وامتد للغة العربية، حيث يتخرج من جامعات الصين الآن ألف شخص سنوياً يتقنون العربية، وكذلك اللغات الأخرى، في غزو صيني قادم للعالم بتذليل كل العقبات التي يمكن أن تعترض انتشار وتمدد الصين وشعبها، هذه التحولات الهائلة في كل مرافق الحياة وزواياها رافقها تطوير هائل للخدمات والبنى التحتية، بطريقة لافتة للانتباه تختصر الزمن، بل تختزله أحيانا، ونهضت فنادق ومنتجعات فارهة ودخلت الصين لخدمات السبعة نجوم، وتقديم الخدمات الفاخرة للأثرياء الجدد، الذين يتوالدون بصورة سريعة، ويتحسن مستوى دخل الأفراد العاديين، الذين استعاض جزء ليس قليلا منهم عن دراجاتهم الهوائية بسيارات جديدة يتسابق مصنعو السيارات على الفوز بعقد شراكة لتصنيعها بالصين، وهكذا انقلبت بكين ومدن كثيرة رأساً على عقب، بتخطيطها وتطوير خدماتها، ولعل مطار بكين شاهد على تصميمه لمتطلبات الغد، الذي ستكون فيه الصين العملاق الاقتصادي، الذي يميل ميزانه التجاري مع الجميع، هذا الانقلاب يحتاج لجرأة في القرار، حيث فيه قفز وتجاوز لكل الثوابت الآيديولوجية التي تحكم المنهج الشيوعي، الذي نجحت الصين بعدما تحررت من عصابة الأربعة، بعد زعيمها التاريخي ماو تسي تونغ، الذي بقيت منه فقط صورة كبيرة تزين ساحة تيان آمين الشهيرة، التي راهن البعض على الشرارة التي انطلقت منها أن تسري في أوصال الصين وتفتتها، لكن سرعة وجرأة الرد حاصرت هذه الشرارة بمزيدٍ من الانفتاح وفرص العمل والثراء وتحويل كل مبادئ ماركس ولينين الى المتاحف الوطنية، مما جعل كل الأحلام القومية أو الإثنية لشعوب الصين، التي تقارب الـ56 قومية أكبرها قومية الهان، تتراجع أمام الفرص الاقتصادية الواعدة، وهذا الأمر تعلمت منه فيتنام وتخلصت فيه من آثام وخطايا النظام الاشتراكي، الذي أفقر شعوباً عديدة، ولا تزال كوريا الشمالية وكوبا تئنان من أوجاعهما الاقتصادية، وبقيتا مأسورتين بتلك المبادئ وحبيستين لها، تنسجان من حولهما وهماً بينما ينسج الآخرون حريراً يرفلون به.

هذا التزاوج في المفاهيم، الذي أطلق عليه زعيم الصين الحالي خو جين تاو، تعبير الهارموني الذي يتناغم مع متطلبات الانتقال للريادة، بل وهذا الانفتاح الهائل والقدرة على تسويق المنتج الصيني، وقبل ذلك القدرة على تصنيعه، هو مربط الفرس الذي نحتاج نحن العرب الى أن نتلمسه، وأن نفهم قدرة الجنس الأصفر على الاستنساخ والتصنيع، مقابل دول كثيرة ومنها منطقتنا التي لاتزال تدور في حلقات فارغة من شعارات الوهم طيلة الخمسين عاماً من التنمية والبناء والحرب ضد الاستعمار والإمبريالية، نجتر فيها شعارات أغرقتنا في دوامة من الانفصام والازدواجية، رغم كل ما نمتلك من أفكار وعقيدة تدفعنا لأن نبلغ الذرى، حولها السفهاء منا الى آيديولوجيا تكفير وتدمير شوّهت وجودنا ورؤية العالم لنا، إضافة الى كل ما تكتنز أرضنا وما تحويه من ثروات تفتقدها الصين وتفتقدها فيتنام وكوريا، بينما لايزال 40% من سكان وطننا العربي يغرقون في أمّية مزمنة وملايين العاطلين عن العمل، الذين لا يجدون رغيف الخبز، الذي نستورده لهم ولم نفلح لحد الآن في أن نؤمن كفايتنا الغذائية لسكان بلداننا، وتراجعت نسب كثيرة مخيفة في حياة شعوبنا العربية، ولا نريد الاسترسال في جلد الذات الذي يمكن أن يطول، بل هي شقشقة تستفهم عن هذا الزمن الثمين الذي يضيع من عمر شعوبنا، بينما الآخرون يجرون في ماراثون رفاه وترف لا حدود له.