محافظون وثوريون

TT

منذ أسبوعين ماضيين، أشرت إلى أنه ليس من العدل وصف الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد على أنه من المحافظين، وذلك نظرًا إلى أنه في الحقيقة من الثوريين الراديكاليين. إلا أنني لم أعن بكلامي هذا، أنه يمكن اعتبار منافسيه داخل المؤسسة الخومينية بالمحافظين بالمعنى الدارج لهذا المصطلح.

ومع ذلك، أثارت مقالتي قدرًا كبيرًا من الجدل، حيث انصبت علي الانتقادات سواء من الملالي الكارهين لأحمدي نجاد، أو الديمقراطيين الإيرانيين الكارهين للنظام الخميني ككل. وما زاد الأمور تعقيدا أنه قد انصبت علي الانتقادات أيضًا من البقية الباقية من الشعب الإيراني، التي اعتبرت وصف أحمدي نجاد بالثوري أمرا غير العقلاني. ولتدعوني أتعامل في البداية مع الهجوم الأول لسهولة تفنيده. لقد مضى عهد احتلت فيه كلمة «الثورة» معنىً وشذًا رومانسيا، خاصة في المجتمعات الغربية المحافظة الثرية. وعندما كنا طلابًا في الستينات، كان هناك جزء من الشباب بالغرب يدخنون الحشيش، ويرتدون التي شيرتات المزدانة بصور «تشي» جيفارا ـ المغامر والقاتل الأرجنتيني المولد ـ الذي صال وجال في ربوع أميركا اللاتينية وأفريقيا، وقتل كل من لم يتفق معه في الرأي. وإلى هذا الحد أود أن أقول إن مصطلح الثورة ليس رومانسيا، كما أنه ليس مقدسًا. فأنا أعتبر الثورات ما هي إلا لحظات من الجنون في تاريخ البشرية. فإذا ما قتلت إنسانًا فأنت قاتل، وإذا أضرمت النيران فأنت محرق للمباني. وإذا ما سرقت بنكًا فأنت سارق. ومع ذلك، فإذا ما قام الآلاف بتلك الأشياء مجتمعة يتم اعتبارهم ثوريين، ذلك لأن الجرائم التي تُرتكب بصورة جماعية يتم تبجيلها على أنها ثورة. إن الثورة ما هي إلا قتل للأشخاص بأعداد مهولة، كما أنها عمل جماعي من أعمال السلب والنهب والتدمير. إنها أيضًا الزج بمئات الألوف داخل السجون وإجبار الملايين أيضًا على ترك وهجر منازلهم. لقد ولّدت جميع الثورات الحرب، وتسببت في الفقر للكثيرين، فضلاً عن القمع والإرهاب.

وليس هناك على الإطلاق ثورات صالحة، فكل الثورات ـ مهما كانت نتاجًا لضرورة تاريخية ـ تعتبر دائمًا شرا مطلقاً. فالأناس الذين يتمتعون بمثقال ذرة من التحضر والإنسانية، لا يمكنهم أن يحيوا أبدًا بين الصفوة الثورية لفترات طويلة. ولنفكر في دانتون في فرنسا أو كيمينيف في روسيا أو مهدي بازرجان في إيران. لقد كانوا جميعًا على قدر كبير من الحكمة بحيث لا يبقون في خضم الثورات التي ساعدوا هم أنفسهم في إقامتها. أما الثوريون البارزون فقد كانوا مثل روبسبير، ستالين، هتلر، كيم ال سونغ، لين بياو، فيدل كاسترو، بول بوت، وروح الله الخميني.

وعلى هذا الأساس، فعندما أصف أحمدي نجاد بأنه ثوري، فأنا لا أمتدحه أو أطري عليه. وكل ما أريد إيضاحه أنه يميل أكثر إلى أن يكون نتاجًا شرعيًا وممثلاً للثورة الخمينية أكثر من كونه رجل أعمال مخادعا مثل هاشمي رفسنجاني أو الملا مشوش التصرفات مثل خاتمي.

لقد سألني بعض القراء ماذا أعني بالمحافظ. وفي محيط نظام الخميني، فإن بعض الملالي أمثال رفسنجاني وخاتمي من الممكن اعتبارهم محافظين، وذلك من حيث خشيتهما فقدان السلطة والامتيازات، فهم لا يؤيدون مطلقًا أي تغييرات هيكلية كبيرة داخل النظام. كما أنهما يكرهان أحمدي نجاد لأنه يهدد سلطتهما وامتيازاتهما بالدفاع عن سياسات من الممكن أن تؤدي إلى تغيرات هيكلية لصالح العناصر الأمنية العسكرية والتي من شأنها إيذاء علماء الدين. أما من حيث المعنى السياسي للكلمة، فلا يمكن وصف كل من رفسنجاني أو خاتمي بالمحافظين.

فالمحافظ الحقيقي هو من يعارض جميع أشكال الثورات، ويرفض الاعتراف بشرعيتها، بل وحتى تلك الثورات التي تمت في الماضي وأصبحت تاريخًا، رغم أن هذا الأمر لا يعتبر واقعيًا. إن كلاً من رفسنجاني وخاتمي لا يمتلكان الشجاعة للقيام بما فعله بوريس يلتسن، عندما أعلن أن الثورة ما هي إلا مأساة تاريخية قومية، ثم دعا الشعب إلى أن يخلفوها وراء ظهورهم.

إن المحافظ الحقيقي، هو من تكون لديه الهبة التي يمكننا أن نسميها الصبر الاستراتيجي. كما أنه هو من يعلم أن التغيير الذي يجلبه العنف والإرهاب دائمًا ما يكون أسوأ من عدم حدوث التغيير على سبيل الإطلاق.

إن دعم الإصلاح بدلاً من إجراء جراحة اجتماعية وسياسية راديكالية، هي ما يرغب فيه حقًا المحافظ من أجل الإبقاء على ما هو جدير بالحفاظ عليه، والتخلي التدريجي عما لم تعد هناك جدوى منه. وفي الوقت الذي يتسم فيه المحافظون بالتشاؤم من منطلق أنه لا يمكنهم الوثوق بالطبائع البشرية للقيام بالصواب أو العزيمة على الاعتناء بشؤونهم الخاصة، إلا أن المحافظ الحقيقي يعتبر متفائلاً. فهو يثق بأن الشعب سيكتشف مصلحته ويختار أفضل طريقة لتنظيم شؤونه الفردية والجماعية. إن النقطة الرئيسة هنا هي جعل الأفراد مطّلعين، وإتاحة قدر وافر من العناصر التي يحتاجونها لاختيار الحُكم والقرار النابعين من داخلهم. كما أن المحافظ الحقيقي هو من يرغب في دولة ضعيفة نسبيًا مع مجتمع قوي.

وبالنسبة للمحافظين فإن أفضل سياسة اقتصادية تلك التي تشجع الشركات المستقلة، والملكية الخاصة والتجارة الحرة، كما أنه سيكون من المعارضين للإعانات. ودائمًا ما يكون من المؤمنين بالحكمة بأن إعطاء الفقير سمكة ستطعمه ليوم، أما تعليمه حرفة الصيد، فسيجعل مائدته عامرة طوال حياته. إن المحافظ هو المعارض للضرائب المرتفعة، وهذا لأنه يرغب في حكومة صغيرة ببعض المهام المحدودة والحيوية في ذات الوقت، وهو أيضًا من يعارض وضع مقدار وافر من الثروات الوطنية تحت إمرة الدولة. إن المحافظ هو من يضع على قائمة أولوياته، السماح ومساعدة الأفراد على أن يتم سماع أصواتهم. فحرية التعبير بالنسبة له تعتبر أساسا جوهريا لجميع الحريات. ولهذا يرفض دائمًا التصحيح السياسي، حيث يعتبره بمثابة نفاق متنكر في هيئة لباقة متعددة الثقافات.

وبينما يحلم الثوري بعالم من الانتصار ويحاول تصدير أيديولوجيته، فإن جل ما يشغل بال المحافظ هو التنوع داخل النطاق البشري. إن حلم الثوري بالتوسع دائمًا يقوده إلى الحرب. أما إدراك المحافظ بحقوق كل الشعوب بإدارة شؤونها على الشاكلة التي يرونها مناسبة، فمن الممكن أن يؤدي إلى تعزيز السلام.