محمود درويش شاعر العرب من فلسطين

TT

عرفتُ شعر محمود درويش، بعد قصيدة المطر لبدر شاكر السيّاب، أواسط الستينات من القرن الماضي. وكان مصدر المعرفة الصحف والمجلاّت اللبنانية التي كانت تُعيدُ نَشْرَ قصائد محمود درويش وزملائه والتي تنشرها الصحف العربية في فلسطين المحتلة. ومع أنني كنتُ أدرس في المعهد الديني ببيروت، وأحفظُ القرآن والمعلّقات، لا أكاد أنا وزملائي نستسيغ حتى أحمد شوقي؛ فقد أُعجب بعضُنا ـ وكنتُ أحدهم ـ بنزار قباني والسيّاب ودرويش. وكانت أشعار نزار قباني ودواوينه حتى في ذلك الوقت تتميز بالأناقة، والاهتمام بتفاصيل حياة المرأة، في حين كان شعر السيّاب مليئاً بالرموز ومغمَّساً بالمأساة. أمّا محمود درويش، وزميلاه توفيق زيّاد وسميح القاسم، وهم من جيلٍ أصغر؛ فقد كانوا بالنسبة لنا، طليعة الوعي النضالي الفلسطيني، وقد اقترنوا ـ رغم شيوعيتهم آنذاك ـ في أذهاننا بياسر عرفات وحركة فتح. وما أدركْتُ لصغر السنّ وضآلة الخبرة ـ لماذا ارتبط درويش في ذهني، بالسياب، إلاّ عام 1967، وكنتُ قد سافرتُ إلى القاهرة للدراسة بالأزهر. يومَها، وقبل نكبة 5 حزيران فيما أظنّ، نَشر رجاء النقاش في سلسلة كتب الهلال الشهرية مجموعةً شعريةً لمحمود درويش سمّاها باسم إحدى القصائد الواردة فيها: آخر الليل، بيد أنه أضاف بعد نقطتين على السطر(..): نهار! واجتمعنا مساءَ ذلك اليوم في غرفة شابٍ سودانيٍ كان يقرض الشعر اسمه عبد الله آدم، وبدأ عبد الله يُنشد القصيدة تلو الأُخرى بصوتٍ شجيٍ فنضحك مرةً وننشج مرات، وأبقى قصيدة آخِر الليل إلى الآخِر، ثم قال: ما تظنون أنّ الشاعر سمّاها: آخِر الليل، أم آخِر الليل نهار، كما على الغلاف؟ وانتهينا إلى أنّ (النهار) إضافةٌ غير شِعرية، ومن الناشر المصري، وليس من الشاعر! لكنْ من مجموعة «آخر الليل» وسماعِها تُنْشَدُ بصوتٍ مرتفع أدركتُ لأول مرةٍ، كما سبق القول، لماذا أحببتُ السيّاب ودرويش.. ونزار قباّني، دون بقية شعراء الحداثة. أحببتُهما للغنائية العميقة والشجية التي ميزت نشيدهما، على اختلاف الثقافة والموهبة والموضوع. وأحببتُ الثلاثة لأنهم حتى وهم يلعنون ويعلنون اليأس، يغوصون أكثر في الانتماء العربي، والمصير العربي! كنتُ أقول للدكتور إحسان عباس، وقد صرْنا أصحاباً بعد عودتي من ألمانيا إلى بيروت عام 1977: أَوَلَيس السيّاب رائداً من رواد الحداثة، وكذلك نازك الملائكة؟ فلماذا أتذوق شعرهما وشِعر محمود درويش، ولا أتذوَّقُ شعر فلان وعلاّن؟ السيّاب ودرويش وقبّاني وآخرون، كانت الأمةُ خيارهم الكبير، ولذلك دخلوا بموهبتهم وغنائيتهم إلى أعماق قلوبنا، لانتصارهم على انقطاعات الوعي والسياسة والبطولات المدَّعاة والنذالات المقدَّسة(!)

رأيتُ محمود درويش مراراً في أُمسياتٍ شعريةٍ في السبعينات في بيروت. ورأيتُه مرةً عند إحسان عبّاس. لكنني لم أعرفهُ حقاً إلاّ عام 1982 أثناء الاجتياح الإسرائيلي. فقد دعاني رشاد أبو شاور للمشاركة في صحيفةٍ يوميةٍ للمقاتلين، وكان محمود درويش يحرّر القسم الشعري منها. وما سَرَتْ الكيمياءُ بيننا إلاّ في نقاشٍ عن أسباب انتحار خليل حاوي يومَها، قلتُ لرشاد ودرويش: لا أستطيع فهمَ انتحاره، لكنني سأروي لكم قصةً عميقة الدلالة عنه: فقد أُصيب بأزمةٍ قلبيةٍ قبل عامين واصطحبني إحسان عباس لمستشفى الجامعة الأميركية لزيارته. وسُرّ حاوي لزيارة عباس سروراً عظيماً، فقد كانا زميلين في الدائرة العربية بالجامعة الأميركية، وكانت تحدث بينهما خلافات مما يكون بين الزملاء. جلس حاوي في سريره متحفزاً، وسأل إحسان وطرح على عباس فجأةً سؤالاً غريباً: هل تدري يا إحسان لمَ أنا شاعرٌ كبيرٌ؟ فضحك إحسان عباس وقبّله في رأسه كما يقبل أخٌ أخاه، وقال: لا، قُلْ لي! فقال حاوي: أنا شاعرٌ كبير لأنني عربي، أحملُ في عقلي وقلبي مشروع الأمة، ولو كنتُ لبنانياً وحسْب لما كنتُ أكثر من زجّال! قام محمود درويش فقبَّل رأسي، وبكينا نحن الثلاثة كما لم نبك من قبل. لماذا بكينا؟ على بيروت المُحاصرة، أم على الفلسطينيين الذين كانوا يستأنفون غربةً مجهولةً أُخرى، أم على خليل حاوي، أم على أنفُسنا، أم على الأمة التي تقف مشدوهةً أمام حَدَث بيروت؟!

ومضت أكثر من عشرين عاماً إلى أن رأيتُ محمود درويش ببيروت من جديد، مرةً في أمسيةٍ شعرية، ومرةً في توقيع ديوان جديد له. ثم كان أنْ جاء إلى بيروت فدعاه الرئيس فؤاد السنيورة إلى الغداء عام 2007، وتواعدْتُ معه في ذلك المساء حيث قضينا الليل كلَّه مستعيدين الذكريات المشتركة بدءاً بالراحلَين السيّاب وإحسان عباس. وأذكر انه قال لي وقتها وهو يودعني على باب الفندق: لا أظن أني سأعود إلى بيروت مرةً أُخرى. لا أدري لماذا تذكرتُ هذه المرة حصار بيروت عام 1982. أنتم يا رضوان تسيرون من حصار إلى حصار، بيد أنّ حصاركم الجديد مثل حصارنا باعثٌ على اليأس. كان اليهود يحاصروننا ويحاصرونكم، أما الآن فالحصار مزدوج، والتخلُّصُ من ربقة الحصار الداخلي أفظَع، رغم الأهوال التي لقيها الشعب الفلسطيني على أيدي اليهود وما يزال!

خرج محمود درويش من فلسطين المحتلة أواخر الستينات، وتردَّد قليلاً ثم انضوى في المشروع الوطني الفلسطيني. قال لي في احد أحاديثنا عام 1982؛ وكنتُ أسألُهُ لماذا اختار ياسر عرفات ومنظمة التحرير، رغم أنه كان راديكالياً في شبابه؟ وحاول في البداية أن يتملَّص من السؤال فقال: خياري هو خيار اليساريَّين الآخَرَين جورج حبش، ونايف حواتمة. فهما مختلفان عن عرفات في المزاج والخلفية الثقافية، وقد بدآ النضال قبله؛ لكنهما سُرعان ما انتظما في منظمة التحرير. وصمت قليلاً شاعراً أنه ما أجاب، ثم اندفع قائلاً: منذ صِغَري كان وعيي مختلفاً عن وعي زملائي، رغم أننا صرنا يساريين منذ المدرسة الثانوية. فهم كانوا يعتبرون كونهم قَلَّةً، ميزةً لهم، أما أنا فكنتُ أعتبرُ ذلك مشكلة المشاكل. إذ إنّ مشروع تحرير فلسطين إن لم يكن مشروع الكثرة الساحقة من الأمة ـ أو كما تقول أنت: مشروع السواد الأعظم ـ فهو لن يتحقّق، وإذا تحقّق فلن يكونَ مشروعَ الأمة، وربما تحول إلى شيءٍ آخَرَ تماماً. وشهدتُ في شبابي وأمام عينيَّ تجربتين: تجربة جمال عبد الناصر، وتجربة البعثيين. وكان البعثيون مثلنا منهمكين في نقاشاتٍ وصراعاتٍ لا تنتهي، أمّا الأمةُ فمع جمال عبد الناصر. وفي التجربة الفلسطينية كان هناك الحزب الشيوعي، والقوميون العرب السائرون نحو اليسار، ومنظمة فتح ذات الجذور الإسلامية. في التمييز بين تجربة عبد الناصر والبعث، كان عقلي مع البعث، وقلبي مع عبد الناصر وصدق قلبي؛ فقد تبين أنّ البعثيين لا يريدون الوحدة بالفعل، وإنما يريدون السلطة. أمّا في المجال الفلسطيني فكنتُ قد تعلمْتُ، فصار عقلي وقلبي مع ياسر عرفات. ولا تضحك إذا قلتُ لك إنّ لذلك علاقةً بمزاجي الشِعري. فأنا من النخبة الفلسطينية والعربية، وكنتُ مشدوهاً بكثيرين من رموز الحداثة، لكنني عندما أريد أن أكتب قصيدةً أبدأُ بدندنتِها، وأشعُرُ أنني غصنٌ في تلك الشجرة الباسقة، شجرة الأرز عندكم، التي عمرها آلاف السنين، لا قطائع ولا استئنافات، ولا حداثة ولا تقليد.

في الثمانينات من القرن الماضي، صار ياسر عرفات ومحمود درويش، قطبي الرحى في الهوية الفلسطينية. وعندما علمتُ أنّ ياسر عرفات كلَّف محمود درويش عام 1988 بكتابة إعلان الاستقلال، كلّمتُ إحسان عباس، وقلتُ له ضاحكاً: أظن الرجل سيبدأ الإعلان أو يختمه بآيةٍ قرآنية! ووافقني إحسان، لكننا لم نحزر الآية التي استشهد بها، وهي: « قل اللهم مالك المُلْك تؤتي المُلْك من تشاء، وتنزع المُلْكَ ممن تشاء، وتُعِزُّ من تشاء وتُذلُّ من تشاء، بيدك الخير. إنك على كل شيءٍ قدير». إنّ هذا الصراع على فلسطين بين العرب والغرب، هو صراعٌ ملحميٌّ كبير، يستحضر بطبيعته وأهواله القدرة الإلهية ولاشيء غير.

وكما في كلّ أمةٍ كنتُ ألتقي فيها محمود درويش، كنا نتحدث عن بدر شاكر السيّاب ثم عن إحسان عبّاس، وكان عباس قد كتب عن السيّاب ويريد الكتابة عن درويش فأعجزتهُ السِنُّ وقهره الموت، هكذا أُودِّعُ درويش بمقطوعته هو، التي تذكّر فيها السيّاب عندما احتلّ المغول الجدد العراق عام 2003:

أتذكَّر السياّب، يصرخُ في الخليج سُدىً

«عراقُ، عراقُ، ليس سوى العراق...»

ولا يردُّ سوى الصدى

أتذكر السياب.. إنّ الشعر يولدُ في العراقِ

فكن عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي!

أتذكّرُ السياب، حين أُصابُ بالحُمَّى

وأَهذي: إخوتي كانوا يُعِدُّون العَشاءَ

لجيش هولاكو، ولا خَدَمٌ سِواهُم... إخوتي!

أتذكَّر السيّاب. إنّ الشعر تجربةٌ ومنفى

توأمان. ونحن لم نحلُمْ بأكثر من

حياةٍ كالحياة، وأن نموتَ على طريقتِنا

«عراقُ

«عراقُ

«ليس سوى العراقْ...»