في نقد بديهيات الخطاب الديمقراطي العربي

TT

أحسن صديقنا النابه الوزير المتميز محمد بن عيسى، في اختياره عنوانا لإحدى ندوات موسم أصيلة هذه السنة «النخب والديمقراطية والسلطة». ويغطي هذا العنوان كل إشكالات التحول السياسي الراهن في العالم العربي، التي عنّ لي أن أسهم في اللقاء المتألق بتناول جانب منها هو ذلك المتعلق بالجوانب النظرية التصورية المؤطرة للخطاب العربي حول المطلب الديمقراطي.

وسأكتفي في هذا الحيز بالوقوف على ثلاثة محددات من هذا الإطار النظري:

ـ التصور التعاقدي لفكرة الدولة ومشروعيتها، الذي ينطلق من قراءة مشوهة واختزالية للتجربة الأوروبية. صحيح أن مفهوم العقد الاجتماعي هو احد مرتكزات الحداثة السياسية، إلا انه لم يكن موضوع إجماع، وطرح دوما إشكالات عصية غير محسومة بين طبيعته الإجرائية غير الملزمة (التي هي تجسيد طابعه الحر) والمنظور المعياري الذي أفضى إليه تدريجيا بتحويله إلى تجسيد للهوية السياسية القبلية للإنسان (مقولة الإنسان كائن مدني، كما اشتهرت عن أرسطو) مما يعني نفي أسبقية منطلق الحرية على تركيبة الترابط الاجتماعي المنظم. فإلى جانب التقليد التعاقدي في الحداثة الأوروبية تبلور تقليد آخر لدى مفكرين وفلاسفة بارزين في مقدمتهم سبينوزا، اعتبروا أن التصور التعاقدي يحجب السمات الصراعية والصدامية الطبيعية في الجسم الاجتماعي، ويفسح المجال أمام الأحادية المتسلطة للانفراد بالحكم من منطلقات تفويضية قبلية. فالديمقراطية بحسب هذا التصور ليست تجسيدا لعقد اجتماعي ثابت، بل هي تنظيم سلمي لصراعات اجتماعية دائمة ليس لها سقف معياري ولا خلفية عقدية او إيديولوجية سابقة تؤطرهذا الصراع القائم.

ـ  التصور الاطلاقي للدولة الذي ينظر إليها بصفتها هوية وأساس الكيان الجماعي، ومن ثم تحميلها مسؤولية كلية شاملة، تأرجح بين الحد الأدنى الذي هو احتكار العنف المشروع حسب عبارة ماكس فيبر الشهيرة والحد الأقصى الذي هو صياغة الشخصية الوطنية وقيادة عملية التحديث والتنمية حسب العبارات الشائعة في الخطاب السياسي العربي السائد. ومن المعروف أن هذا التصور الاطلاقي للدولة يقوم على فكرة السيادة التي تعود للقاموس الديني، وقد تم نقلها من السجل اللاهوتي إلى السياق العلماني حسب ما بين الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت. ومن الواضح أن مقولة السيادة وان كانت اليوم من بديهيات الفكر السياسي القائم، إلا أنها أفضت في القرنين الماضيين إلى أكثر النزعات القومية اقصائية وعدوانية بتأسيسها الرباط الإنساني على مقتضى المواطنة الضيقة. فهذا التصور الذي يتعرض حاليا لنقد حاد في الفكر السياسي الغربي يتعارض مع القيم الكونية للديمقراطية بصفتها فضاء رحبا للضيافة والانفتاح في ما وراء الخصوصيات الثقافية والعرقية.

ـ التصور التمثيلي للديمقراطية باختزالها في آلية الانتخاب، التي هي من دون شك آلية إجرائية ضرورية في المسلك الديمقراطي، بيد أنها تقوم على مصادرة قدرة الميكانيكا الانتخابية في التعبير عن الإرادة الجماعية المشتركة. ففضلا عن الشك في الوجود الفعلي لهذه الإرادة التي افترضها روسو، فإن ثمة مستويات عديدة من الانزياح بين الإرادة الفردية الحرة ودائرة السلطة الفعلية التي لها قوامها الذاتي، الذي لا تؤثر فيه العملية التمثيلية إلا في حدود ضيقة.

إن المراجعة النقدية لخطاب النخب العربية حول المطلب الديمقراطي، تتطلب: إعادة تصور العقد الاجتماعي لدفع وتحرير حركية الصراع الاجتماعي السلمي، شرطا لتحدبث المجتمع العربي ونقله من ديمقراطية الإجماع الغائم الوهمي الى ديمقراطية القطيعة والتجاوز، وإعادة تصور مبدأ السيادة في اتجاه الانفتاح على حركية صياغة وتجسيد القيم الإنسانية الكونية المشتركة التي هي شرط انتزاعنا لحقوقنا وضمان فاعليتنا في العالم، كما هي شرط تحريرنا من قبضة الدولية الكليانية، وإعادة تصور مبدأ التمثيل والانتخاب الذي قد يتحول خارج السياق الثقافي الليبرالي والتنويري الى تقويض الشروط الموضوعية للديمقراطية، التي كان الفيلسوف الفرنسي المشهور جاك دريدا، قد حذر من ميلها للانتحار والتدمير الذاتي.