.. وليس من الديمقراطية: الانقلاب على قاعدة (حكم الأغلبية)!

TT

«هذا هو لب الديمقراطية: أن ننصت إلى اختيارات الشعوب، لا أن نرغمها على ما يناقض هويتها بدعوى أن شعوبا أخرى تقدمت بهذا المنهج أو ذاك. فإذا كانت شعوبنا العربية والإسلامية قد اختارت دينها منهج حياة فلماذا نحملها على ما لا ترضاه؟.. ضروري أن نعمق البحث في هذا الاتجاه».. هذا ملخص رسالة مستنيرة بثها على موقع هذه الجريدة «الشرق الأوسط»: قارئ مثقف من المملكة المغربية: تعليقا على مقال الأسبوع الماضي الذي كان موضوعه ـ وعنوانه ـ (تركيا والإسلام وخيارات الشعوب المسلمة والسبق السعودي). وقد انتظم المقال محاور عدة منها محور انصب على استطلاع للرأي أجرته مؤسسة (غالوب) الأمريكية، وظهر من خلاله: أن الغالبيات العظمى من شعوب مصر وتركيا وإيران تؤيد تطبيق الشريعة الإسلامية عليها، أي على هذه الشعوب نفسها!

ومن مصادر سعادة الكاتب: أن يجد تفاعلا من القراء مع ما يكتب. فإنما يكتب الكاتب لـ (القارئ)، وإلا لماذا يكتب؟!.. وفي هذا السياق نقدر لـ (الكبار) ـ كذلك ـ تعقيباتهم على ما نكتب، ولا سيما أنه قد تبين لنا من التجربة أن لدى هؤلاء القراء الكبار (رادارات خاصة) تكتشف فيما يُكتب آفاقا غير مطروقة: تضيف الجديد المفيد من الموضوعات الحية التي تثري الفكر، وترفد القارئ بمزيد من المعلومة الصحيحة، والرأي البناء.. ومن الأمانة الفكرية أن نسجل ـ ها هنا ـ ان جوهر فكرة هذا المقال الماثل: التمعت في ذهن قارئ عربي (كبير الوزن في بلده ومحيطه العربي الإسلامي وعالمه الإنساني). ولقد تحاورنا حول هذه الفكرة يوم صدور المقال (السبت الماضي).. وقبل بسط القول في الفكرة، نود تسجيل ظاهرة (التوافق الفكري) بين رسالة الأخ المغربي المذكورة في مطلع المقال وبين تعقيبات القارئ الكبير، وهو توافق تبدى في ملحظين: أ ـ ملحظ (الوحدة الفكرية) على (الثوابت) بين المسلمين في كل مكان. ب ـ وملحظ أن القارئ الكبير يعبر ـ بصدق وأصالة ـ عن نبض وخيارات الشعوب الإسلامية، أي الخيارات الحقة المعتدلة السلمية المتحضرة.

لكن ما هو جوهر الفكرة التي التمعت في ذهن القارئ العربي المشار إليه؟.. نلخّص ما قاله في السطور التالية: ان الديمقراطية تقوم على ركائز أساسية من أهمها (حكم الأغلبية) والتراضي على ذلك قانونا وسياسة وعملا. ففرنسا ـ مثلا ـ بلد ديمقراطي رأسمالي، ومع ذلك وصل إلى الحكم فيها حزب (اشتراكي) لأنه حصل على الأغلبية في الانتخابات، ولم يحتج أحد على ذلك. وهكذا يكون الحكم للأغلبية في كل تجربة ديمقراطية، ولكن الظاهرة اللافتة هي:«ان هذه القاعدة تتغير ويتم تجاوزها حين يتعلق الأمر بالمسلمين، أي حين تفوز أغلبية إسلامية بغالبية مقاعد البرلمان، حيث تجرى محاولات منعها أو إزاحتها من الحكم بشتى الوسائل، على الرغم من ان الانتخابات هي التي وصّلتها الى تلك النتيجة. وأقرب مثال على ذلك ما جرى في تركيا التي نودي بحل الحزب الحاكم فيها بتهم كذا وكذا، مع أنه وصل الى الحكم بغالبية كبيرة سيطر من خلالها على معظم مقاعد البرلمان. وهذا ليس من العقل ولا حتى العدل، بل ليس من الديمقراطية ذاتها، بل ان هذا الموقف من شأنه أن يوصم الديمقراطية بالتناقض، أو بالتخبط في أحسن الأحوال».

والفكرة جوهرية كما قلنا. أولا: لأنها أشبه برأي قضائي نزيه في هذه المسألة.. وثانيا: لأنها تربط السياسة بـ (العنصر الأخلاقي)، إذ ليس من الأخلاق العملية: الكيل بمائة مكيال ـ حسب الهوى ـ لا بمكيال واحد فحسب!.. ثم انه ليس من مصلحة الديمقراطية ذاتها أن تتلون مفاهيمها ونتائجها بلون الأهواء السياسية.

هل هذا (رفض) للديمقراطية، او تعيير لأصحابها بها؟.. لا.. لا.. فهذا الرفض ليس (تدخلا) في (خيارات) الآخرين ـ فحسب ـ بل هو قبل ذلك مخالفة لمنهجنا الذي أتاح هذه الخيارات وأصّلها تأصيلا في آية محكمة ـ غير منسوخة ـ، وهي الآية 48 من سورة المائدة ـ مثلا ـ: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة».. وتنوع الأنظمة السياسية يدخل في تعدد الشرائع والمناهج.

نعم. لنا رأينا في الديمقراطية ـ بمفهومها الغربي ـ، ويتعلق هذا الرأي ـ مثلا ـ بركيزتين كبيرتين من ركائز الديمقراطية: ركيزة (الأحزاب) التي لا تتصور ديمقراطية بدونها، فنحن لا نؤمن بالأحزاب: أيا كان نوعها ورايتها وغايتها (يسارية أو ليبرالية أو دينية)، وعدم الإيمان هذا مسبب ومعلل موضوعيا وفكريا.. ومن ذلك: أن في (طبيعة الأحزاب وتركيبها) أمراضا وبيلة: نفسية وخلقية واجتماعية وسياسية، وهذا رأي يتفق معنا فيه ـ أو نتفق معهم ـ مفكرون غربيون كثر منهم المفكر الأمريكي اللامع المتخصص في (الدراسات المستقبلة): الفن توفلر.. ولنا رأينا في الركيزة الديمقراطية الأخرى الكبرى وهي (حكم الأغلبية).. ونحجب رأينا الآن لنفسح المجال لآراء مفكرين بارزين نبتوا في البيئات الديمقراطية الغربية ذاتها، منهم روبرت دال.. والفن توفلر، ولنكتف الآن ـ التزاما بمساحة المقال ـ برأي الأخير. فقد قال ـ في كتابه: بناء حضارة جديدة ـ:«إن حكم الأغلبية، وهو المبدأ الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية الحالية: أصبح باليا، تجاوزه الزمن.. يقول عالم السياسة وولتر دين برينهام (أنا لا أرى أساسا صحيحا لأية أغلبية إيجابية تتفق حول أي شيء في هذه الأيام).. ثم يمضي توفلر ـ بعد هذا الاستشهاد ـ فيقول:«إن حكم الأغلبية لم يعد كافيا كمبدأ للشرعية فحسب، وإنما أيضا لم يعد بالضرورة مبدأ ديمقراطيا لإنسانية البلاد التي تتهيأ للمستقبل، فسيأتي يوم ينظر فيه المؤرخون الى عملية التصويت والبحث عن الأغلبيات كأحد الطقوس العتيقة التي يمارسها أقوام بدائيون».

لكن، لنصادر آراءنا الآن، أو لنتجاوزها، لنقر القوم على ما أقروا أنفسهم عليه وهو (الأخذ بمبدأ الأغلبية في الحكم)، نقرهم على ذلك، ليس منّة منا، فلا نملك أن نمن. وإنما احتراما لخياراتهم الحرة.

بموجب منطق (الأخذ بمبدأ الأغلبية في الحكم)، ينبغي تعميم القاعدة في كل عملية ديمقراطية: بلا استثناء، ذلك أن الاستثناء ليس توكيدا للقاعدة في هذه الحال بالذات، بل هو الغاء لها أيما الغاء، ولنتصور هذه (الخطيئة الديمقراطية) في المثلين الآتيين: ماذا لو رفض أحد الحزبين الأساسيين في أمريكا نتائج الانتخابات بحجة أن الحزب المنافس فاز بالأغلبية؟!.. وماذا لو طولب الحزب الاشتراكي في فرنسا بالتنحي عن الحكم ـ في حال فوزه بالأغلبية ـ بحجة انه حزب اشتراكي؟!.. ان هذا (هدم حقيقي) لمبدأ الأغلبية.. نعم.. وكذلك الوضع بالنسبة للأحزاب ذات الاتجاه الإسلامي التي تمنع من حقها بسبب اتجاهها أو جذورها.. ثم لماذا (الخوف) في هذه الحال بوجه خاص؟.. أهو خوف من الإسلام؟، أم من المسلمين؟.. إن الإسلام (مصدر أمن) لا مصدر خوف، فهو إنما جاء لإسعاد الناس وأمنهم ـ روحيا وماديا، فالله تعالى غني عن عبادة الناس له.. وما جاء لاسعاد الناس وأمنهم، يستحيل أن يكون مصدر خوف أو شقاء لهم:«فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى».. أما إذا كان سبب الخوف من المسلمين الذين يصلون الى الحكم وفق مبدأ الأغلبية، فإن الخوف يرفع بالآليات الديمقراطية نفسها، بمعنى ان هذه الآليات (القوانين والاجراءات القضائية الخ) كفيلة بلجم كل من يعمل على منع (تداول) السلطة ـ مثلا ـ لمجرد أن يصل الى الحكم!

بعد وضوح هذه القضية، يتعين الصدع بـ (الحقيقة) الرئيسة في هذا المجال وهي: أن عداوة الاسلام هي التي تقف وراء المناوئين لتحكيم قيم الإسلام في حياة المسلمين، ويتعين ـ كذلك ـ: الجهر بحقيقتين أخريين:

أ ـ حقيقة: انه ليس من حق أحد ـ كائنا من كان ـ أن يجعل هواه أو رأيه بديلا للاسلام، والسبب بدهي جدا وهو: انه لا يستطيع أحد ان يدعي بأنه هو خالق الناس وإلههم ومن ثم فإن الله الحق وحده هو الذي يجب أن يطيعه الناس بالتشريع الذي أنزل:«اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء».

ب ـ وحقيقة انه لا جدوى ـ قط ـ من محاولات كبت الاسلام وطي راياته. وأقرب برهان على هذه الحقيقة: تركيا نفسها التي كُبت فيها الاسلام كبتا شديدا.. ثم بعد ثمانين عاما عاد الأتراك إلى ربهم وإسلامهم: بحب واقتناع وحماسة وسعادة.