استراتيجية لتقليم مخالب الدب الروسي

TT

عربدة الدب الروسي أخلت بميزان القوى وغيرت ملامح الخريطتين الاستراتيجية والجيوبولتيكية، بضمها خمس مساحة بلد ديموقراطي مستقل، في تحد للمجتمع الدولي لابد من مواجهته باجراء يوجع النظام القيصري الجديد في مكان حساس... هو الروبل.

الرئيس الجورجي المنتخب، ميخائيل ساكشفيلي، ابتلع طعما تدلى من مصيدة القيصر فلاديمير بوتين، وكأنه استعار سياسته من كتب ك: «دليل حسن نصرالله... الى مغامرات حزب الله»، او «خراب صدام في الميدان: عن طريق غزو الجيران»؛ او من «تجارب الكولونيل عبد الناصر... في احراز الانتكاس المعاصر».

انتزعت حنجرة ساكشفيلي القرار من عواطفه الحماسية ـ دون المرور بعقله ـ فصرخ موجها جيشه الضئيل نحو جنوب واسيتيا مما ادى لتدمير معظمه. ورغم النكسة الناصرية الأبعاد فنظام ساكشفيلي، المنتخب ديموقراطيا سيستمر على الارجح بحشد اوكرانيا والجمهوريات المستقلة تاييدها له (خشية مخالب الدب الروسي) وبظهور وزيرة خارجية أمريكا كوندوليزا رايس في تيبليسي حاملة تاييد واشنطن التي تنبهت الى خطط بوتين الممسك بخيوط الدمية ديميتري ميدفيديف الذي لم يقنع احد بنجاحه في اداء دور رئيس الدولة.

الخطورة ان اوروبا وحلف شمال الاطلسي «ناتو» ـ كدعامتين لضمان ديموقراطية العالم المتحضر وحريته ـ يظهران في موقع متراجع في خريطة التوازن التي رسمها بوتين بخطة كانت معدة مسبقا والقوات جاهزة، بدليل اتمام المهمة في خمسة ايام فقط كشف اثنائها غياب استراتيجية رد فعل سريع لمفاجات روسية أثبت التاريخ انها القاعدة وليس الاستثناء (سباقهم لدخول برلين قبل الحلف في الحرب الثانية؛ حصار برلين، ودخول المجر وتيشكوسلوفاكيا واحتلال مطار كوسوفو الوحيد عند خروج الصرب).

حرب الايام الخمسة قمة جبل ثلج عائم تحتها اطماع بوتين للتحكم في البترول والطاقة، موارد ووسيلة نقل عبر اهم وصلة بين الشرق والغرب في طريق الحرير التاريخي الذي احيت الطاقة اهميته بدرجة تقارب قناتي السويس وبنما، وممري باب المندب وجبل طارق. يمر عبرجورجيا على البحر الاسود تجارة بلدان وسط آسيا المستقلة تجنبا لابتزاز موسكو، ومليون برميل بترول يوميا عبر خط انابيب تركيا، الذي اعتبره القيصر الجديد تحديا لنفوذه بتجنبه اراضي روسيا.

استخدام روسيا لقوة معدة مسبقا بإفراط لا يناسب حجم الحدث للإجهاز على استقلال ديموقراطية جورجيا (وانذار للمستعمرات السوفيتية السابقة) قوبل بصمت يصم الآذان من جانب اليسار، الاوروبي والعالمي، الذي لايزال ينفخ نفير ادانة التحالف الغربي المتحضر لتخليصه شعبي افغانستان والعراق من نظامين يثيران التقزز والاشمئزاز. استراتيجيو المقعد الوثير وحكماء تحليل الحدث بعد وقوعه، غزوا شاشات الفضائيات بفتاوى تحمل الغرب مسؤولية الأزمة بتلكئه في ضم جورجيا لحزب الناتو؛ او تحالفوا مع اليسار «حنجوريا» بتحميل المسؤولية للعالم الحر لانه «استفز» روسيا بوعود مغرية لساشكفيلي الامريكي التوجهات، او بدعم استقلال كوسوفو، فردت موسكو بتحقيق استقلال ابخازيا وجنوب اوسيتيا بالقوة. الفارق الاخلاقي ان الغرب لم يستخدم قوة مفرطة اكبر من حجم الحدث.

نظريا، كان القيصر بوتين سيفكر مرتين في غزو بلد لديه اسلحة ردع نووية بحسابات معادلة توازن التدمير الشامل المتبادل التي ضمنت استقرار العالم خلال الحرب الباردة.

لكن المعادلة تقتصر عناصرها على اعضاء النادي النووي الخمس الكبار الدائمين في مجلس الامن.

تجارب كالحرب الكورية، وغزو السوفييت للمجر عام 1956، والتصفية الدموية لانتفاضة التشيك عام 1968 اثبتت ان الناتو لن يخوض حربا نووية مهلكة لمجرد حماية حليف مقيم في طرف المعسكر. حرب الايام الخمسة اجابة عملية على دعوات ساذجة يطلقها اليسار هنا بتخلي بريطانيا عن السلاح النووي كنموذج اخلاقي للعالم (واستباقا لتعليقات عن ازدواجية معاييرنا باقحامهم ايران في الامر أقول: بريطانيا ديموقراطية مسؤولة لا تهدد الجيران والسلام الاقليمي بمحو بلدان من الخريطة).

بوتين لا يسمح حتى بوضع رادارات دفاعية، غير هجومية، في وسط اوروبا كمحطة انذار مبكر لصواريخ باليستية متجهة غربا، مما يثير الشكوك في نواياه المستقبلية.

المجتمع الدولي سيدفع ثمنا فادحا، اذا لم يتحرك لمعاقبة القيصرية الروسية الجديدة لردعها عن خوض مغامرات مماثلة في اوكرانيا او بلدان الامبراطورية الشيوعية السابقة في وسط وشرق اوروبا.

من العبث التفكير في صياغة قرار مجلس امن تستخدم موسكو الفيتو لوأده.

المطلوب من الامم المتحدة ان تتغلب على ضعفها الناجم عن سيطرة عقلية العداء للغرب على غالبية اعضائها من انظمة العالم الثالث غير الديموقراطية.

ويجب الا تكرر المنظمة الدولية خطا تقاعسها عن اجبار نظام صدام حسين البعثي على تنفيذ قرارات مجلس امن اتخذت تحت الفصل السابع، مما دفع بتحالف غربي ـ ساهمت فيه جورجيا عسكريا ولها قوات في العراق ـ للتحرك لتغيير النظام الصدامي. المطلوب تحالف الامم المتحدة مع الناتو واوروبا، برئاسة فرنسا في عهد نيقولاس ساركوزي ـ الذي اعادها للتحالف الغربي الى جانب دوره الديبلوماسي الفاعل بين موسكو و تيبليسي.

العمل العسكري غير وارد اخلاقيا او عمليا، فالمطلوب ضرب روسيا ماليا في صميم الروبل.

الغرب بزعامة واشنطن انقذ روسيا من الافلاس في التسعينات بقروض ومنح سخية وفتح الاسواق وتسهيل المعاملات المالية ومرور الافراد والبضائع وتبادل التكنولوجيا، مما ادى لثراء سريع في اقتصاد سوق حر مفتوح، لكن للاسف سيطرت عقلية الشمولية الشيوعية وعداء الحرب الباردة على النظام السياسي في عهد بوتين.

مطلوب استراتيجية تتضمن طرد روسيا من مجموعة الدول الصناعية الثمانية الكبار فعقد القمة في موسكو قبل عامين منح نظام بوتين شعبية داخلية وفوائد اقتصادية وتسهيلات تجارية ومركزا عالميا مرموقا سيؤلمه فقدانه.

التهديد بنقل اوليمبياد ألعاب الشتاء 2014 من مدينة سوتشي على الحدود بين روسيا وابخازيا المتنازع عليها مع جورجيا اذا لم تلتزم موسكو بالقانون الدولي، خاصة وانها استثمرت 18 مليار دولار في منشآت سوتشي.

قوة بوتين المالية مصدرها، تصدير الطاقة غربا؛ وعائد استثمارات حلفائه بالمليارت في اسواق المال الغربية وعقارت في افخم مناطق لندن والريفيرا، وشراء اصدقائه المليونيرات لأندية رياضية وشركات الطيران.

تحول الشركات الغربية لشراء الطاقة من مصادر غير روسية بقرارات من الكونجرس والبرلمانات الاوربية، مع استبدال كل الدول الغربية لارصدتها من الروبل بعملات اخرى، وتجميد الارصدة الروسية في بنوك الغرب، سيوجه للعملة الروسية ضربة موجعة.

كما يجب ان تتوحد الديموقراطيات الغربية لرفض تاشيرات المرور والسفر للطغمة الحاكمة في موسكو واسرهم وحاشيتهم، وكل رجل اعمال لديه اي ارتباطات بنظام بوتين.

أما السماح للدب المخيف بهضم فريسة صيد الايام الخمسة دون تقليم مخالبه، ونزع بعض انيابه، فسيشكل سابقة خطيرة يدفع العالم الحر ثمنها باهظا في المستقبل القريب.