احبسها واترك (منقارها) فقط يتنفس

TT

من منكم شاهد طائراً وهو يبني عشه؟! أعتقد أن البعض قد شاهد ذلك، إن لم يكن على الطبيعة ففي التلفزيون على الأقل، وإنني من هؤلاء البعض، وقد ساعدني الحظ أن لاحظت من خلال النافذة في غرفتي عصفوراً ينسج بداية عشه على أطراف غصن في شجرة بمنزلي، فاستهواني منظره، وقعدت له بالمرصاد أراقبه طوال أكثر من أسبوعين، حيث أن زجاج النافذة كان عاكساً فكنت أراه من دون أن يراني، وتفرغت تماماً لمراقبة ذلك العصفور الفنان لدرجة أنني تركت مشاغلي على جنب، واعتذرت عن بعض المناسبات الاجتماعية، وكنت مذهولا وسعيدا في نفس الوقت، وأنا أشاهده كل يوم وهو يرفرف بجناحيه حول الشجرة، ثم يطير إلى طرفها وبمنقاره خيط طويل من العشب النضر، وينسجه حول الغصن بدقة بالغة وهو يرتفع تارة ويهبط تارة.

وما هي إلاّ أيام حتى بدا منظر العش يتشكل بباب لا يدخله إلاّ من الأسفل لكي لا تغرقه الأمطار لو هطلت، ولا تستطيع الزواحف أن تدخله مهما كان إلاّ إذا ركبت لها أجنحة لأن العش كله (متدلدل) بورقة شجرة لا تحتمل ثقلا غير ثقل العش نفسه.

وبعد أن انتهى ذلك (البناء الشامخ) تحول إلى (عش زوجية)، فأصبح يقطنه زوجان وثلاث بيضات، حافظت طوال الأيام معهما على حسن الجوار، والحق يقال إنهما كانا خير جيراني، فلا إزعاج منهما ولا تنغيص ولا شكوى، أصحو في الصباح الباكر كل يوم على تغريد الذكر لمدة ربع ساعة وكأنه تحول إلى (ساعة منبه) بالنسبة لي، وبعد ذلك العزف المنفرد يذهب في حال سبيله لكي يأتي لعروسته الرابضة المتبغددة بغذائها آخر اليوم، فأعود أنا بطبيعة الحال لمواصلة نومي بأمان ودعة لمدة ساعة أو أكثر.. وما زلت بانتظار البيض أن يفقس، لأذهب لجيراني أهنئهم بالمواليد، وما زلت محتاراً بنوعية الهدّية التي سوف أقدمها لها.

ومن الأعشاش العجيبة هو عش طائر اسمه (خطاف الشجرة)، حيث أنه يفرز مادة هلامية تتحول إلى ما يشبه الزجاجة الرقيقة التي لا تستطيع أن تتحمل إلاّ بيضة واحدة، لان البيضتين تكسرانه، ومن رقة ذلك العش أن الأنثى لا تنام على البيضة فيه، وإنما فقط تفرد جناحها عليه، ليغطيها كالوشاح الدافئ.

أما الطيور التي تبني أعشاشها من الطين فلها مزاج خاص، لأن بعضها يبدع في بعض التصاميم، وبعضها لا يرتاح في سكنه إلاّ إذا فرشه من الداخل بريش الكتاكيت وخيوط الصوف والقطن ليصبح فراشا وثيرا.

وتخيلت أنهم لو خيروني أن أكون طائراً ماذا أكون؟! أقول لو أنه قدر لي أن أكون كذلك، فلن أختار غير طائر (الهورن بيل)، وهو طائر ذو منقار في ضخامة حجمه، ويختار جوف شجرة مناسباً، ثم يأتي بأنثاه ويضعها في الداخل مع بيضها ثم يسد عليها ذلك التجويف بالطين بإحكام، ولا يترك لها في الخارج سوى جزء من منقارها لكي تتنفس منه، وتبقى حبيسة لعدة أسابيع حتى يفقس البيض، وبعدها يزيل الذكر الطين عنها، وإذا بالأنثى قد تساقط ريشها نهائياً وأصبحت جلداً على عظم عاجزة عن الطيران، ويقوم الذكر خلال هذه المدة بتغذيتها هي وصغارها عدة اشهر حتى ينبت لها جميعاً الريش وتطير معاً، ولا يصاحبها الذكر، لأنه أدى دوره وانتهى، ولا هم له يبقى غير البحث عن أنثى جديدة، وتجويف شجرة جديدة، ومتعة جديدة. وبعض أهل الخليج يطلقون على مثل هذا الطائر مسمى: (طير شلوّا).

[email protected]