خمسون جنيها من الحكيم

TT

كان أديب مصر توفيق الحكيم مشهوراً بصفات كثيرة، أهمها التجديد في الرواية والمسرح، وثانيها دعوته للناصرية في بداياتها ثم الانتفاض عليها بعد يونيو (حزيران) 1967، وثالثها الحرص الشديد، المعروف عند الجاحظ بالبخل، وعند شكسبير بشايلوك. وقال الرئيس عبد الناصر للحكيم إنه تأثر بكتابه «عودة الروح» في الإعداد لثورة يوليو، ولما قرر الكاتب نقد الناصرية جعل عنوان كتابه «عودة الوعي» وأثار يومها أمواجاً كثيرة في مصر والعالم العربي، لكن هيبة الحكيم حمته من مطالعات المدّعي العام الاشتراكي وتفسيرات نائب المدّعي العام الجمهوري.

حار الحكيم في تقييم عبد الناصر والناصرية. ومثل كل البشر أعجب يوماً وانتقد يوماً. وما تسميه الناس تقلباً هو في بعض الأحيان تعبير عن مشاعر بشرية حقيقية. فالعمالقة يبهتون ويخفقون ويخفت معهم حماس المتحمسين. ولا نعود نعرف مَن نحاسب، الكبار على إخفاقهم، أم المناصرون على انقلابهم. ونحن جميعاً بشر. وجميعاً نقوى ونضعف ونخطئ ونصيب. والفارق فارقان: نسبة الخطأ والصواب، ونية الخطأ والصواب. والنية الحسنة تخفف من وطأة الحساب، لكنها لا تلغيه. لأن الإنسان ليس كائناً ناطقاً بل هو ناطق مسؤول. ومنذ لحظة الخلق الأول علّمه الله أن لكل خطأ عقاباً، وأن عليه الالتزام بأشياء لا تلزم سائر الخلق، وأنه دون سائر الخلق أُعطي كتاباً يحمله بيمينه. لحظات الضعف كثيرة، عند الكبار والصغار. أضعف لحظاتنا أمام الموت والحياة. عندما يولد عزيز أو يغيب عزيز. عندما مات عبد الناصر وهو في الثانية والخمسين من العمر، ذهل العالم أمام المفاجأة. ولفترة غاب المصريون عن الوعي. وشعر توفيق الحكيم، الروائي والمسرحي والكاتب، بالحزن والقلق، وحاول أن يعبّر عن ندمه على نقد عبد الناصر بأعمق ما يستطيع من مشاعر، فكتب: «مَن يفقدك اليوم يفقد فيك نفسه وثمرة أمله. لقد جعل منك الشعب حياً تمثال الحرية لنا، فاسمح لنا وقد فارقتنا أن نقيم لك تمثالا عاليا في ميدان التحرير ليشرف على الأجيال ويكون دائماً رمز الآمال».

حسناً هذه فكرة الروائي والمسرحي والكاتب. لكن التمثال يحتاج إلى مال وتكاليف وتبرعات. حسناً، أيضاً، هنا يأتي دور الحكيم الحريص: «وأنا من بين هذا الشعب أتقدم اليوم بما أستطيع تقديمه: هذه الخمسون من الجنيهات أساهم بها افتتاحاً لقائمة الكتاب». 50 جنيهاً!