أنفاق غزة.. الابتكار النضالي الكبير

TT

في السبعينات.... كان جيفارا غزة (محمد الأسود من لاجئي حيفا) مسؤول الجبهة الشعبية في القطاع، ملاحقا من قبل إسرائيل، ومن قبل المقدم أرييل شارون بالذات، ولكن إسرائيل عجزت لسنوات عن القبض عليه. ذلك أن جيفارا غزة كان أحد القادة الأوائل الذين اكتشفوا أسلوب الأنفاق، ولجأوا إليه لكي يواصلوا نضالهم، متجاوزين قساوة الحصار الإسرائيلي وكثافة الملاحقة الإسرائيلية. كانت الأنفاق تحفر تحت البيوت، وتمتد من منزل إلى منزل، وكان الهاربون من الملاحقة الإسرائيلية، يتنقلون خلالها بحيث يعجز الإسرائيليون عن معرفة أماكن تواجدهم.

ومع الزمن... تطورت قضية الأنفاق في قطاع غزة المحاصر دائما، وامتدت إلى خارج الأرض الفلسطينية، نحو سيناء وأرض مصر. وكانت مصر لسنوات طويلة طويلة، أرضا حنونا، تحتضن أولئك المتنقلين بالأنفاق ذهابا وإيابا. وكان جل هؤلاء المتنقلين عبر الأنفاق مقاتلين يهربون الأسلحة والذخائر لمواصلة نضالهم ضد الاحتلال. وكان هناك تجار ينقلون البضائع لسد حاجات أهل القطاع. ولم يخل الأمر من مهربين يتعاطون مهنا غير شريفة. وكانت مصر طوال تلك السنوات تعرف ما يجري عبر الأنفاق وعبر حدودها، وإذا أرادت التصدي لمهربين تصدت لهم فوق أراضيها، بينما كانت تغض الطرف عما يفعله الفدائيون وعما ينقله الفدائيون.

ومع الزمن... أصبحت الأنفاق داخل مدن قطاع غزة، وعبر حدود قطاع غزة مع مصر، أسلوبا نضاليا، وأسلوبا حياتيا لأهالي القطاع. أصبحت الأنفاق هي الابتكار الصعب الذي مكن أهالي القطاع من مواجهة الاحتلال، ومن تأمين وسائل العيش.

كانت إسرائيل تعرف بالتفصيل قضية الأنفاق وما يجري عبرها وتحاول القضاء عليها. وكانت مصر تعرف بالتفصيل قضية الأنفاق وما يجري عبرها وتغض الطرف عما يجري، إلا حين يكون هناك مساس بأمنها يمثله المهربون للمواد الخطرة الممنوعة (المخدرات) ولا شيء سواها.

كانت الأنفاق الابتكار النضالي الفلسطيني، الابتكار الصعب الذي يستحق التقدير والاحترام، والذي لم ترو قصته كاملة حتى الآن.

وحين قررت إسرائيل، إسرائيل رئيس الوزراء أرييل شارون، الانسحاب هي ومستوطناتها من قطاع غزة، توقفت عند قضية الأنفاق، خشيت أن يزداد عبرها تهريب الأسلحة ذات الطبيعة النوعية، فاقترحت بناء جدار إسمنتي، يضرب عميقا في الأرض، بحيث يصبح عائقا أمام حفر الأنفاق. واقترحت أيضا بناء سد مائي يهدد كل نفق يحفر بالغرق، ولكن هذه الاقتراحات لم تستطع أن تجد طريقها للتطبيق.

ثم جاءت مرحلة سيطرت فيها حركة حماس على قطاع غزة، وبدأت مصر تتعاطى مع الأنفاق بطريقة مختلفة، فهي تعلن بين حين وآخر أنها اكتشفت نفقا ودمرته، وتقول الصحف أحيانا أن أجهزة حديثة وصلت إلى مصر للمساعدة في اكتشاف الأنفاق. وفي ظل الحصار لإسرائيلي الكامل لقطاع غزة، وفي ظل إغلاق المعابر وبينها معبر رفح المخصص لانتقال وسفر المواطنين، بدأ استعمال الأنفاق أحيانا لأسباب أخرى، فعبرها قد ينتقل الطلاب أو بعض المرضى. ونسمع في الأنباء أحيانا أن معبر رفح قد فتح بشكل استثنائي لمرور هذا المريض أو ذاك، ولعودة هذا المسؤول أو ذاك، ولا أحد يفكر بفتح المعبر بشكل دائم، ولو حتى باعتباره وسيلة من وسائل تخفيف حاجة المواطنين لاستعمال الأنفاق، للتنقل أو لنقل الغذاء.

هذه الصورة تبرز أمامنا الآن، بينما تبادر مصر إلى «التمهيد»، مجرد التمهيد، لبدء حوار فلسطيني ـ فلسطيني برعايتها، من أجل إنهاء الانقسام القائم بين غزة ورام الله. ولا بد أن تكون مصر مشكورة لأداء هذا الدور، فقد اعتادت مصر وجيشها وشعبها، أن تكون دائما حضنا دافئا للفلسطينيين، معيشيا وسياسيا ونضاليا، وهي مؤهلة أكثر من غيرها لرعاية حوارات الفلسطينيين ومساعدتهم في حل مشاكلهم الداخلية.

وقد أرسلت مصر في الأسبوع الماضي رسالة إلى الفصائل الفلسطينية المفترض أنها ستشارك في الحوار، وتضمنت الرسالة أسئلة حول الموقف من قضايا عدة، وأوحت الأسئلة أن من سيجيب عليها بطريقة «مقبولة» سيدعى للحوار، ومن يجيب بطريقة «غير مقبولة» سيستثنى من الحوار. وأثارت هذه الأسئلة استغراب الكثيرين، ورأى فيها البعض نوعا من الحوار المشروط، ورأى البعض أن الحوار التمهيدي المشروط هذا، سيعرقل الوصول إلى الحوار الفعلي. وآنئذ يحق لمصر أن تقول إن ظروف الفصائل ليست مهيئة للحوار، ويبقى «نفق» الحوار م غلقا ومسدودا بجدار أو بحاجز مائي.

ولكن النفق المسدود لا يقتصر على الحوار الفلسطيني المنشود، والذي يؤكد الجميع، وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس، أنهم يريدونه بجدية، ولكن هم لا يصلون إليه. النفق المسدود يواجه أيضا المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وهي أنفاق تهدمت أكثر من مرة ثم أعيد حفرها بقدرة قادر. ونعيش الآن صخب الوصول إلى نهاية من نهايات المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، عبر وثيقة أو صفقة إيهود أولمرت التي تم الإعلان عنها قبل أيام، والتي بادر الفلسطينيون إلى رفضها، مع أنها ليست وثيقة جديدة، إذ يعرف الجميع قصتها منذ أسابيع.

إن وثيقة أولمرت هذه، تشبه تماما مشروع إيهود باراك للحل الدائم، والذي عرضه على الرئيس الراحل ياسر عرفات في قمة كامب ديفيد 2000. وقد رفض عرفا ت صفقة إيهود باراك وانتهت المفاوضات. وها هم قادة السلطة الفلسطينية يعلنون رفضهم لصفقة أولمرت ولكن المفاوضات رغم ذلك لا تنتهي.

لقد عرضت الصفقة قبل أشهر على الرئيس محمود عباس م ن قبل إيهود أولمرت ورفضها. وعرضت على المفاوض الماراثوني (50 جلسة أو تزيد) أحمد قريع من قبل وزيرة الخارجية تسيبي ليفني ورفضها. وها هو أولمرت يجدد عرضها علنا وعبر الصحافة الإسرائيلية، ويتجدد الرفض الفلسطيني لها، وعبر الصحافة أيضا. تقوم صفقة أولمرت على نفس الأسس والقواعد التي تقوم عليها صفقة ايهود باراك من قبل. الاستيلاء على القدس، والاستيلاء على ما يزيد عن 40% من أراضي الضفة الغربية، ورفض البحث في قضية عودة اللاجئين، والسيطرة على المياه الجوفية وعلى الأجواء والمياه الإقليمية والمعابر، والاستيلاء على أراضي غور الأردن، من أجل المطالبة بنصف مياه نهر الأردن، وبحجة أن غور الأردن هو حدود إسرائيل الأمنية. وتعلن خطة أولمرت رسميا أنها تقوم على قاعدة جدار الفصل العنصري الذي تم بناؤه، والذي أدانته محكمة العدل الدولية ودعت إلى هدمه، ثم تستغفل الجميع في النهاية وتقول إن كل ما تريد ضمه هو 7% فقط من أراضي الضفة الغربية. وتحتوي هذه النسبة «البسيطة» على كل المستوطنات الكبيرة المحيطة بمدينة القدس والتي تضم 80% من المستوطنين. وتضم كذلك المستوطنات التي بنيت قرب نابلس وفي محيط مدينة بيت لحم، وهي مستوطنات تمنع التواصل الجغرافي للأرض الفلسطينية المتبقية، ويمن علينا أولمرت بسبب ذلك بالاستعداد لبناء طرق وأنفاق تصل أجزاء الدولة الفلسطينية المبعثرة، والتي يمكن أن تسمى «دولة المواصلات».

ولكن لماذا يعرض أولمرت خطته الآن؟

لقد جرى قبل فترة وجيزة اجتماع إسرائيلي ـ فلسطيني بزعامة كونداليزا رايس في واشنطن. وأعلنت رايس في حينه أنها تريد الوصول إلى «اتفاق رف» يسجل ولا ينفذ. ومن المؤكد أنها طلبت من كل طرف أن يقدم لها تصوره للاتفاق وعن نوع الرف الذي سيوضع عليه. وها هو أولمرت يقدم لها ما طلبته، متضمنا كل ما تطمح إسرائيل للاستيلاء عليه، ويبقى أن يقدم الفلسطينيون تصورهم. ويمكن صياغة التصور الفلسطيني بأسطر قليلة تقول: انسحاب إسرائيلي كامل، وسيادة فلسطينية كاملة. وهذا يعني إزالة المستوطنات كلها وفي مقدمتها مستوطنات القدس حتى يمكن أن تكون القدس عاصمة الدولة الفلسطينية. وهذا يعني إلغاء النظرية البائسة، نظرية تبادل الأراضي، إذ لا أحد يستبدل أرضا هي حق له بأرض أخرى هي حق له. وهذا يعني الإقرار بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، العودة إلى وطنهم الأم وليس العودة إلى الدولة الفلسطينية كما يقولون.

إن هذا الموقف الفلسطيني الموجز، هو بمثابة حفر نفق نضالي في اتجاه التسوية السياسية. فهل هناك مفاوض فلسطيني يجرؤ على حفر النفق إلى هذا الهدف؟