العراق : ديمقراطية المركز وديكتاتورية الأطراف

TT

الشيء الذي يمكن استخلاصه من مراقبة السجال السياسي العراقي في المرحلة الراهنة هي ان هناك ديمقراطية حقيقية تصل احيانا الى حد الفوضى في اتخاذ قرارات المركز وتنظيم عمل السلطات الاتحادية، لكن مثل هذه الديمقراطية تكاد تختفي في الاطراف وتتحول احيانا الى شكل من الديكتاتورية المغلفة بأطر مؤسساتية هشة، والمؤسف اكثر هو ان ديمقراطية المركز ليست نتاج إيمان راسخ بالقواعد الدستورية والآليات الديمقراطية بل ببساطة انها نتاج لضعف المركز اولا ثم لاقتران مؤسساته بتوافق «المكونات» بحيث لا يمكنها ان تفصل نفسها عن هذا التوافق لان ذلك يعني إنهاء مصدر وجودها. في الحقيقة أن هذه الوصفة ليست مثالية بأي حال من الاحوال لنظام ديمقراطي حقيقي، بل هي تجسيد لاستمرارية عوامل الانقلاب على الخيار الديمقراطي في اي لحظة. واذا كانت الحكمة الليبرالية تقول إن أكفأ الحكومات هي التي تحكم قليلا، فانها لم تقل ابدا ان هذه الحكومات يجب ان تكون ضعيفة عندما تحكم، فأساس الحكم الديمقراطي السليم هو سلطة القانون التي تحتاج الى حكومة قوية لتفرضها.

السبب الأساسي في الوصفة الحاكمة لنظامنا السياسي اليوم هو اولوية السياسات المبنية على الهوية كما ابرزت ذلك النقاشات الخاصة بقانون انتخابات مجالس المحافظات، فاذا كان من المنطقي حصول تباين حول السياقات والآليات والشكل الأنجع لنظام انتخابي فعال وتمثيلي فإن مثل هذه الخلافات سرعان ما تحولت الى استقطاب على اساس الهوية العرقية وهو استقطاب تميل اطرافه الى رفع سقوف مطالبها بعد ان تتحول مواد قانونية «فنية» الى قضايا «قومية» و«مصيرية» وبالتالي يفقد النقاش عقلانيته ويغدو صراعا لإثبات الوجود. وهكذا هو الحال مع كل القضايا الاخرى، ارتفاع حدة هذه الاستقطابات يسمح للكيانات الممثلة للمجموعات العرقية او الطائفية بتأكيد شرعيتها لانها دائما ما تستثمر بالخوف وهو استثمار يدفع الناس دائما الى التخلي عن مطالبهم «الحياتية» لصالح «القضايا الكبرى» في سلوك طالما حكم العمل السياسي العراقي. من هنا تصبح مساءلة المركز لممارسات اطرافه نوعا من الاعتداء على «الخصوصية» لان المركز في الحالة العراقية ليس له إلا ان يمثل اطرافه لا ان يحكمها. تلك ببساطة هي فلسفة مفهوم التوافق السياسي في العراق ولبنان، حكومة ممثلة لا حاكمة، بقاؤها مرهون بالقدرة على الاحتفاظ بالمعادلة السياسية الموجودة لها لا بتغيير هذه المعادلة.

من هنا يبدو عقم الإلحاح على الحكومة كي تتصرف بطريقة مختلفة من دون ادراك ان في ذلك نهاية لها بلا بديل محتمل، وبدون ان يعفي ذلك الحكومة من التحرك ومحاولة انتزاع فرص المبادرة حيثما كان ذلك ممكنا. بالطبع مع استمرار هذا الواقع تستمر هشاشة الحكومة، كما عجزها عن ان تقوم بالوظيفة الحقيقية لها، أي ان تحكم (ولو قليلا). وهنا تطرح ثلاثة مخارج في الجدل السائد حول العراق، الأول هو ان عملية اعادة استقطاب داخل البنية السياسية الراهنة والتحالفات البرلمانية قد تنتج معادلة جديدة تبدت للبعض في التصويت على القانون المنقوض لمجالس المحافظات، لكنها مراهنة تبدو موغلة بالتمنيات لان هذا التصويت لم يغير المعادلة بقدر ما أعاد تركيبها، اي انه بدلا من الاستقطاب الطائفي برز الاستقطاب القومي والعرقي وكلا الاستقطابين محكومان بهواجس الهوية وبرغبة تأكيد الاطراف لخصوصياتها على حساب الاطراف الاخرى، وهي وصفة يؤدي التمسك بها الى مزيد من الاضعاف للمركز. المخرج الثاني هو في التعويل على الانتخابات القادمة لإنتاج تغيير جوهري في المعادلات السياسية لكنه مع اهميته تعويل مبالغ فيه لسبب بسيط، فرغم وجود عدم رضا عام عن اداء المؤسسات التشريعية والتنفيذية إلا انه سخط لم يترجم الى بلورة بدائل سياسية حقيقية ذات مصداقية في الوقت الذي يؤدي استنفار الهوية العرقية والطائفية الى قبول بعض الناس بممثليهم القوميين او الطائفيين (على سوئهم) كبديل عن السماح لممثلي الطرف الاخر من الاستمكان. هناك تعويل مهم على ما حصل في الشارع السني من حراك سياسي افرز ظاهرة الصحوة كمنافس للتيارات المنضوية حاليا في جبهة التوافق، لكنه تعويل يصطدم بحقيقتين، الاولى انه تنافس داخل المكون الواحد مهما تصاعد لن يؤدي بالضرورة الى نفي اتحاد فرقائه في مواجهة الاخرين، كما هو حال الحزبين الكرديين اللذين رغم صراعاتهما التاريخية يظهران في المؤسسات الاتحادية ككيان واحد متراص، الحقيقة الثانية أن الشارعين الشيعي والكردي لا يشهدان ظهور بدائل حقيقية في المرحلة الراهنة، ورغم كثرة اسماء الكيانات السياسية الراغبة بخوض الانتخابات إلا انها مجرد محاولات غير ناضجة لا تشكل فارقا إلا لأعضائها واصدقائهم المقربين العارفين بوجودها. كما ان ظاهرة انتاج تيارات ذات جذر عشائري كالصحوة وإن بدت مهمة من حيث ضمها فاعلين مجتمعيين جدد إلا ان الخروج من سياسات الطائفة والقومية الى سياسات العشيرة، علاوة على ما ينطوي عليه من إيغال في النكوص عن مفاهيم الدولة المدنية، لا يحمل معه حلا للمشكلة بقدر ما يفاقمها إذا انتهينا الى المساجلة على الحدود الجغرافية للعشائر بدل الحدود بين القوميات، مع ذلك فهذا الدخول قد يكون مفيدا في ضخ دماء جديدة وبالتالي مفاهيم جديدة للعمل السياسي المستقبلي.

المخرج الثالث لا يبدو ان المفترق الزمني الراهن قادر على طرحه، وهو مخرج تعديل بعض المواد الدستورية بطريقة تمنح السلطة الاتحادية امكانية فصل نفسها ولو جزئيا عن التحالفات البرلمانية، كأن يكون رئيس الوزراء منتخبا بشكل مباشر، ولكن لكون مثل هذا التعديل مرهون ايضا بالتوافقات بين مكونات تتوجس من التخلي عن اي من مكاسبها ومع حقيقة ان تعديلات اقل اهمية تستعصى على المرور عبر دهاليز الاصطفاف السياسي الراهن، يبدو ان هذا المخرج سيظل مؤجلا او غير قابل للطرح.

يبقى القول مجددا كما قلنا مرارا إن الوصفات سحرية سوى مواصلة المراهنة على تغير الظروف وتعديل المعادلات تدريجيا يرافقهما وعي وطني تؤسسه تجارب الماضي والحاضر المرة يستطيع ان ينشئ بدائل ذات مصداقية في مرحلة تكون فيها هواجس الهوية قد تراجعت، وهو تراجع سيقاومه الكثيرون من الذين لا يمتلكون رأسمال قابل للاستثمار بغيرها.