دعوة على العشاء

TT

عنيدة أنا في ما يختص بما أحب وما اكره داخل البيت. إحساسي بأن الدنيا بخير يرتبط بإيقاعات معينة ومواقيت وعادات تتكرر يوميا، ومنها أنني أحب إعداد الطعام بنفسي، وأرفض تماما أن نشتري طعاما جاهزا، لأنني أتوجس خوفا من مستويات النظافة. كما أن مذاق الطعام الجاهز نادرا ما يغريني. وإن خرجنا التماسا للطعام في احد المطاعم المجاورة، نعود وكل منا يقول إن طعام البيت أفضل، وان الخروج لتناول الطعام هو اختيار يتم بناء على رغبة في الخروج لا في تغيير نوعية الطعام.

طهو الطعام وتقديمه والمشاركة في تناوله عادة بشرية موغلة في القدم، وهي عادة تشعر الأفراد والجماعات بالانتماء والغبطة. ونادرا ما ترى وجها عابسا بين مجموعة من الناس يجلسون إلى طعام. على مر العصور أصبح تناول الوجبات اليومية سِمة من سمات الحياة العائلية في كافة أنحاء العالم، لكن هذه السمة بدأت في التراجع، والأسباب تجارية بحتة.

الأطعمة الجاهزة غزت الأسواق والبيوت وأصبحت جزءا لا يتجزأ من الحياة العصرية، وجزءا أساسيا من نشاطات البيع والشراء. فهي صناعة قوامها مليارات الجنيهات سنويا تشجعها الحكومات والمؤسسات الاقتصادية لأنها تفتح فرص عمل وتجني من ورائها الأرباح.

والنتيجة، انتشار أمراض السمنة بشكل وبائي بين الأجيال الجديدة التي نشأت على غسل الأدمغة وعشق الوجبات السريعة المشبعة بالدهون والنشويات ومحفزات الطعم. وعليه، فإن شركات الأدوية تربح والأطباء يربحون وشركات الأطعمة السريعة تربح والخاسر هو الأسرة والمجتمع.

لم تعد الأسرة تجتمع على مائدة واحدة لتناول الطعام في مواقيت محددة، ولم تعد ربة البيت تهتم بإعداد الطعام يوميا، يكفي أن تحرص على وجود وجبات سريعة في البيت تحضر عند الطلب إذا جاع احد الأولاد.

راحت الأيام التي كانت فيها ربة البيت مستودعا للدفء والسرور والأمان. لم يعد إعداد الطعام وتقديمه قيمة مستقلة تستحق الثناء، ربما لأن النجاح التجاري لصناعة الأطعمة الجاهزة يعتمد على إقناع النساء إعلاميا بأن الجاهز أفضل وأسرع، وان دخول المطبخ لإعداد الطعام موضة قديمة وجور على حقوق المرأة في اختيار الأسلوب الذي توظف فيه وقتها ومجهودها.

لكن ما يدعو للدهشة حقا أن الوجبات الجاهزة التي تباع بأثمان باهظة غالبا ما تحمل إشارة تقول بأن الطعام «صناعة بيتية». والسؤال الذي ينبغي ان يطرح هو: في أي بيت يصنع ذلك الطعام؟ وبيد من؟، والإجابة المحتملة هي انه يعد في مطبخ مصنع للأطعمة الجاهزة بيد طاهية تتقاضى أجرا زهيدا وتضع في الوجبات ما تؤمر أن تضع فيها من مواد حافظة وكيمياويات أخرى. وان هذه الطاهية هي امرأة عاملة اضطرتها ظروف الحياة لكسب عيشها خارج المنزل. ولا يتطرق إلى ذهنها بأنها تؤدي عملا يسرق أشياءنا الجميلة بالتقسيط المريح. لو خلت بيوتنا من نكهة طعام الأمهات واكتفينا بشراء الطعام الجاهز، لخسرنا الإحساس الجميل بأننا حلقة في مسلسل بشري ممتد. هذا المسلسل شارك فيه آباؤنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا. فهل يجوز ان نخسر هذا كله في سبيل ساعة إضافية في صالون التجميل، أو محادثة تليفونية طويلة مع صديقة، أو حتى مشاهدة احدث مسلسل تركي أو مكسيكي أو حتى عربي؟!.. إعداد الطعام فن وإبداع ومهارة لا أتنازل عنها أبدا.