لمن الرثاء؟

TT

ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً

فأصغي إلى جسدي

وأصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ

فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق

عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً

وأخيِّب ظنّ العدم

مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم؟

مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا ؟

المقطع الأخير من «لاعب النرد» آخر قصائد محمود درويش نُشِرت في الثاني من تموز (يوليو)2008.

محمود درويش الذي ظلّ يوقظ العرب جميعاً بقصائد، حفر بالعزّة والكرامة والصمود قبراً للهزيمة، وبشعر حرٍّ إلا من قوافي فلسطين الأبيّة. كان يمزجها جميعاً بابتسامته الساحرة، وحضوره المهيب. شاعر فلسطين هذا قطع المسافات الأليمة إلى هيوستن في ولاية تكساس الأمريكية، تلك الصحراء المقفرة من أيّ تعاطف مع ضحايا المآسي التي تنزلها سياسات الحكومات الأمريكية بالفلسطينيين، والتي لا تشبه بأيّ حال صحراء بلادنا، ذهب إلى مشافي الأعداء، بعد أن عجزت مشافي العرب عن معالجته، وهناك سالت آخر قطرات روحه الطاهرة على أرض لا يربطه بها شيء، وعلى تربة أين منها تربة القدس الشريفة، أو رام الله، أو الأسيرة عكا، أو أي جزء من فلسطين العزيزة التي عاش لها وفيها ومن أجلها.

ماذا كان شعور شاعرنا المحمود وهو ينظر إلى وجوه ممرضات أجنبيات لا يعرفن الحنين الذي يملأه لحيفا، ولا يدركن أنّ الذي بين أيديهنّ هو درويش أمة ظلّ يسقي الشعوب والأنظمة بقصائد تهطل علّها تزيل عن عقول العرب الجفاف؟ ماذا كان يفكّر وهو بين أيدي أناس ليسوا بالتأكيد أهله ولا محبّيه، يراهم يقرؤون من استمارات عن تاريخه الطبّي، ويضعون على الورق أرقاماً وتوقعات، غير مدركين أنّ القلب الذي بين أيديهم يختزن بحور الشعر العربي، وأنّ شرايينه الغضّة مدماة بأعقاب الاحتلال وأنين الهجرة تلو الهجرة، وأنّ روحه تتأبّط حقائب السفر ومخيمات اللاجئين التي لا يمكن لها أن تحمل عبق البيّارات، ورائحة خبز أمه، وحرارة الشعور بالانتماء للأرض والبئر والسماء والقمر؟ ماذا كان شعور محمود درويش الذي كان يواجَه دوماًَ بالتصفيق الحارّ من آلاف المحبّين المتعطشين إلى إطلالة قصائده البهيّة، وإلى روحه العنيدة العذبة وهو يدخل وحيداً ذاك المشفى الغريب البعيد محاطاً بالجراحين ولغتهم الباردة، حيث لا يُلقي أحد فيه التحيّة على أحد، ولا يُسمح لأحد أن يحتفل بوجوده، ولا يعلم أحد كيف يجب التعامل مع هذه القامة الشعرية العربية الهائلة؟ ولماذا اضطرّ محمود درويش أن يذهب إلى هيوستن: تلك المدينة البعيدة ليعالج قلباً نبض طوال حياته حباً للعرب، وعشقاً لفلسطين، وأرسى بالحريّة والكرامة، حلماً جميلاً لنا جميعاً ولأجيال المستقبل؟ أوليس حَريّاً بأمّة شيّدت أولى المشافي في تاريخ البشرية، وكان لها باع طويل في نظريات الطبّ وعلم الاستطباب أن تكون لديها المراكز الطبيّة المؤهّلة لعلاج أبنائها؟ خاصّة في البلاد العربية العريقة والكبيرة والغنية، وخاصةّ أيضاً أن الأطباء العرب كأفراد مشهودٌ لهم حيثما وجدوا بمهارتهم وإبداعهم في هذا المجال. ومن هذا المنظور يحق لنا أن نسأل السؤال: لمن الرثاء؟ أهو للشاعر الكبير محمود درويش الذي دوّت، وستظلّ، أصداء شعره في أنحاء العالم، أم هو لهذا الواقع العربيّ الذي عجز إلى حدّ الآن عن لملمة مصادر قوته لينهي الحسرة من قلوب أبنائه، وليعيد لهم العزة والكرامة والعنفوان؟ أهو الشاعر الحيّ الذي سوف يحيا دائماً بشعره فينا ومعنا مع تعاقب الأجيال، أم هذه الغربة التي يعيشها أبناؤنا في الوطن وفي الغربة، حيث ينتشرون في كل أصقاع الأرض لولوج الجامعات الغربية، ومن ثم العمل في كنف ثقافة معادية، بينما أفئدتهم تهفو للعودة إلى ديارهم ؟ أولم يَحِن للدول العربية أن تحقق كل أنواع الأمن لمواطنيها: الأمن الغذائي، والأمن الطبي، والأمن الفكري والتعليمي، خاصّةً بعد أن انتهت المعارك التي لم يخضها العرب، وبعد أن قدمت التبريرات بأن إلقاء السلاح سيعني تخصيص الموارد للتنمية والبناء بدلاً من تحرير فلسطين، وبعد تراكم كل هذه المئات من المليارات من الأموال، التي يحار بعض العرب كيف السبيل لإنفاقها؟ لماذا لا تملك أي دولة عربية مشفى مؤهلاً لمعالجة شاعر أو رئيس أو مليك؟ لماذا كان على شاعرنا أن يتحمل ذل العلاج في بلد معادٍ هو سبب كل المآسي التي يتحملها هو وشعبه منذ ستين عاماً؟ لماذا ونحن لدينا آلاف الأطباء يذهب حكامنا للعلاج في مشافٍ غريبة وبعيدة بدلاً، من أن يطوروا ولو مشفى واحداً مؤهلاً لمعالجتهم وهم في بلدهم؟! رغم كلّ إجرام شارون وجبروته حين كان يبطش بوحشية لم يعرفها بفلسطين وأهلها، قال في مقابلةٍ له أنّه يحسد شعب فلسطين لأنّ لديهم شاعراً مثل محمود درويش، فهو لم يحسد شعب فلسطين على مال أو قوّة، بل حسده على امتلاكه مبدعين لهم قدرة هائلة على الإبداع، إبداع الكلمة والبيت والقصيدة وكلّ ما تولده معها من مشاعر وثقافة ووعي لدى الأجيال.

في غالب الأحيان نبدو للآخر أمةً تتجاهل قيمة ما لديها من موارد، بينما تبالغ لحد الإفراط بقيمة ما لدى الآخرين من عناصر القوّة، والسؤال هو هل هذا ناجم عن جهل بعوامل قوتنا، وانبهار طال تأثيره علينا بما لدى الغرب بشكل عام، وهل هذا نتيجة ضعف في تأسيس تعليمي ينشئ الأجيال على الشعور بالكرامة والعزة والفخر بما تمثّله أمتهم من قيم حضارية والبناء عليه كي يتواصل الحاضر مع الماضي، ويستشرف آفاق المستقبل؟ ومن خلال هذا التواصل والوعي يقيّمون إسهامات الآخرين في الحضارة الإنسانية، وما الذي يحتاجونه منها بما يتلاءم مع ثقافتهم وأهدافهم وطموحاتهم. قد تبدو هذه ملاحظة صغيرة في الحجم ولكنها كبيرة جداً فيما تتطلبه للأخذ بها، لأن الأخذ بها يعني مقاربة مختلفة للتعليم والفكر والأدب والثقافة والحياة السياسية، والتعامل معها في كلّ المكونات التربوية والتعليمية، بحيث لا يجهل حاضرنا عمالقة أمثال ابن خلدون والمتنبي أو كابن رشد وابن عربي ومئات آخرين من المبدعين، ولا يتوقف عندهم، بل يبني على انجازاتهم لبنة إبداع أخرى في الفكر والحياة العربية تلغي صفة الانقطاع عن التراث ولا تلغيهم، بل تصل بينهم وبين عمالقة الحاضر وبشكل لن يترك العرب معلقين في فضاء يطلّ على ماضٍ ولا يتواصل معه، ويطلع على منتجات فكر حديثة ولا يستوعبها، بل يقتطف منها بشكل عشوائي بما لا يحقق علاقة بين الذات والآخر ولا تفاعلاً في الزمان والمكان ولا علاقة حقيقية تسهم في تفعيل كلّ مكوّنات وعناصر المشهد الثقافي والفكري والمعرفي بشكل عام.

إنّ خسارة محمود درويش أثارت فيّ مرّةً أخرى غضباً شديداً، ذلك لأن الأمّة فقدت صوت شاعر كان طوال حياته يمثل إحدى القامات العربيّة الشامخة ذات الحضور العالمي، من دون أن تعيد إنتاج البديل. وشعرتُ بالغضب الشديد لأن دمه العزيز سال في غرف الجراحة بصحراء هيوستن المقفرة، وليس على الأرض التي طالما رواها بحبه وآلامه، وقصائده، ولأنه مات غريباً وهو الذي شكا الغربة داخل الوطن وخارجه، وغضبتُ لأنّ شعر محمود درويش لا يملأ صفحات المناهج العربية من المغرب إلى العراق، ولا تردده كل أجيال العروبة من السودان إلى اليمن فمصر.. فتطوان، وغضبتُ لأنّ هذه الأمة زاخرة بالعراقة والحضارة والغنى بكلّ أنواعه ومع ذلك تبدو فقيرة حين يملأ أثرياؤها أسواق العواصم الغربية، وخاصّةً المعادية منها، في الصيف طلباً للتسوق والتسلية، وينتشر طلابها في جامعات العالم فيما جامعاتهم قليلة العدد فقيرة الموارد ضعيفة المستوى، ويملأ مهاجروها المراكز العلمية والطبية في كافة أنحاء العالم، لتُسجّل انجازاتهم بالألوان الأجنبية، ويقدمون خدماتهم لأوطان وشعوب تمتص إبداعهم ونُحرَم نحن منها. أمّة بدولها كلها، غنيها وفقيرها، تملأ حتى آثارها متاحف العالم وتبدو متاحفها شاحبة مسلوبة. أمّة تحسدها الأمم على مواردها ومبدعيها وقيمها الحضارية، حشرتها الأنظمة بأقفاصها القطرية التجزيئية وخلافاتها المزمنة فتم إهدار كلّ هذه الطاقات والإمكانات وذلك لسبب بسيط وقابل للعلاج لو توفرت الإرادة والرؤية والعمل الحريص والدؤوب.

غضبتُ من أنظمة أمتي وغضبتُ من أجل أمتي، غضبتُ من أجل عروبتي، غضبتُ من أساليبنا التي نرفض أن نبدلها بينما نبدل المسكن والمأكل والمشرب والسيارة بما يتناسب مع آخر ما ينتجه الغرب ولا نفكّر باستبدال الأساليب القديمة التي يلفها العجز والتخلّف بتلك الناجعة التي طرحها وجرّبها ونجح بها الغرب. غضبتُ لأنني خسرت صديقاً رائعاً وجميلاً لبّى الدعوةَ تلوَ الأخرى ليُغرّد بقصائده في دمشق وحمص وغيرها للآلاف من الشباب والشابات الذين كان يلهب حماستهم، حتى لتخالهم مستعدّين للخروج فوراً إلى فلسطين ويملأهم اعتزازا بلغتهم وفخراً بأمتهم. اتصل بي من رام الله وقال الجميع هنا يتمتّع بالحلويات الشامية وسأعود إلى الشام لأسير في شوارع دمشق القديمة واستنشق عبق ياسمينها. محمود درويش لا يُرثى، فقد زرع في كلّ واحد منّا شجرة زيتون ومضى، ولكنّ الرثاء لحاضر كياننا المجزأ الذي لم يستطع أن يرتقي إلى مستوى أحلامه وطموحاته. فهل سيشكل غيابه المرير صدمة لنا لتخرجنا من حالة اللامبالاة هذه ولتضعنا على الخطوة الأولى من الطريق الصحيح؟

www.bouthainashaaban.com