حينما يقود الحدس إلى قرارات في وقتها المناسب

TT

تميزت «الشرق الأوسط» بإقدامها المبكر ـ على الصعيد العربي ـ على اغتنام تقنية الطباعة عن بعد، لإنتاج صحيفة عابرة للقارات. وهذا مؤشر تكنولوجي يؤرخ لمرحلة معينة في تاريخ الصناعة الثقافية.

كانت أمنا المطبعة قد تزوجت لتوها بالحاسوب، فأصبحنا، نحن صحافيي القرن الماضي، سعداء بأن ننتج الجريدة برشاقة أكبر. وأما حينما تزوجت المطبعة بالهاتف فقد اكتسب العمل الإعلامي لياقة غير مسبوقة، إذ تمكن نهائيا من أن يتحرر من قيد المكان.

وبهذا وذاك دخلنا في مسلسل لا ينتهي من المفاجآت، ودخلت البشرية برمتها في مرحلة انتقالية جعلت كل المكاسب، وكل القواعد، وكل المفاهيم، مؤقتة. وقد سميت تلك الحالة في وقت من الأوقات اللا تقنين (dereglement) والمفردة بالفرنسية تحيل على شيء معيب، إذ تشير إلى التشويش والخلل. لم تعد هناك قواعد ثابتة أو قادرة على أن تعمر طويلا.

وها نحن نعيش كونيا ـ على أكثر من صعيد ـ مرحلة انتقالية، ننتقل من مفاجأة إلى مفاجأة، ومن حل مؤقت إلى حل مؤقت آخر، وهي بالضبط حالة العمل بتقنيات أميركية، الضابط الوحيد فيها هو الحدس. وقد حدست «الشرق الأوسط» لدى نشأتها أن اللحظة مناسبة لتطلق منتوجاً بمواصفات متميزة، وأطلقت على نفسها لقب «جريدة العرب الدولية». دولية بمعنى اللا مكان، وكل مكان.

صدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978، وبعد ست سنوات، أقدمت على طبع الجريدة في المغرب (فاتح مايو 1984)، لتصبح مطبوعة في سبعة أماكن. وكان الطبع في المغرب قد خلق نقاشاً حاداً، تحول إلى نزاع تجاري، وصل إلى القضاء، ثم انتهى الأمر بنشوء صداقة حميمة، عبر عنها سلفي على رأس النقابة، الأستاذ محمد اليازغي، بقوله «لقد تحولت «الشرق الأوسط» إلى جريدة مغربية، وبالتالي سدت ثغرة كبيرة في تواصلنا مع الخارج، وخاصة مع العالم العربي» (الشرق الأوسط، 20 ـ 10 ـ 2003). ولا شك أن الزميل يونس مجاهد النقيب الحالي يوجد، هنا، ليؤكد هذه المعاني. وحينما أفسح المجال للصديق عثمان العمير لكي يدلي لأول مرة بحديث لجريدة مغربية (الميثاق، 10 ـ 03 ـ 1993) أبرز أن جريدته مكنتْ من تقديم المثقفين المغاربة إلى المشارقة.

في ذلك الوقت خامرت فكرة الطبع عن بعد، أربع جرائد فرنسية هي: (Le Figaro ;France  Soir ; Turf ; l’Equipe) أرادت أن تتبع خطو «الشرق الأوسط». وبررت الجرائد الفرنسية مبادرتها ـ على شاكلة «الشرق الأوسط» ـ بأنها لن تقتحم السوق المغربية لمزاحمة الجرائد المغربية. بل إنها تريد أن تضيف خدمة أخرى للقارئ المغربي.

كان عدد اليوميات المغربية حينئذ ست جرائد. وعبرت جميعها عن تحفظ أساسي، مثل ما حدث في القاهرة وبيروت، كان يتعلق ببيع الجريدة بسعر مماثل للجرائد المحلية. حدث ذلك في وقت أزمة، إذ وقع ارتفاع ثمن الورق في السوق العالمية من 1.85 درهم إلى خمسة دراهم، مما جعل تكلفة إنتاج الجريدة تثقل بكيفية قاسية كاهل الجرائد المغربية.

وهذا ما أدى إلى رفع المطالبة بالدعم المادي للجرائد المغربية، في وقت لاحت فيه تباشير الانفتاح السياسي الذي رافق تحرير الصحراء. وكان أول مقال نشر لي في «الشرق الأوسط» عن موضوع الصحراء، بعد شهور من صدورها في لندن. (نشر مجزءا في أعداد 28 و29 فبراير وفاتح مارس 1980).

قلتُ إن الطباعة عن بعد كانت إيذاناً مبكراً بدخول مسلسل إنتاج الجريدة في طور جديد. ويجب أن أضيف أن الأمر كان يشبه الخضوع لسلسة عمليات جراحية، لزرع أعضاء تمكن الجسد الإعلامي من اكتساب مزيد من اللياقة. وحدث عندنا وفي العالم، أن الجسد الإعلامي أخذ يتمخض بشدة. وعبر تفاعل نشيط مع تطورات خارجية، (الأوضاع العربية المصاحبة لحرب الخليج الثانية، وسقوط جدار برلين)، أخذ المغرب يتأقلم مع عوامل كانت تحث على تغيير جذري في خريطة العالم.

إن الثلاثين سنة الماضية كانت حافلة. هناك عبارة جذابة أفرزتها مسيرة «الشرق الأوسط» إذ يقول إصحاح مدون في سفر قديم من أسفارها، إنها «جريدة لا تتثاءب»، وهنيئا لها أنها ظلت كذلك.

* وزير الاتصال المغربي السابق

كاتب ومحلل سياسي