أميركا وروسيا ولعبة الجيوبوليتيك

TT

تميزت الامبراطوريات القديمة بعمرها الطويل. فعلى سبيل المثال، عمرت روما نحو 829 سنة، السلطنة العثمانية 469 سنة، الامبراطورية الصفوية 235 سنة. أما الامبراطورية البريطانية فاستمرت ما يُقارب 336 سنة.

كانت الامبراطوريات القديمة تقوم وتسقط بالحروب. وينطبق هذا الامر على الامبراطوريات الحديثة، لكن الفرق حتى الآن هو في طريقة السقوط.

سقطت الامبراطورية السوفياتية طوعا ومن دون حرب كبيرة. هكذا اراد غورباتشوف. وفي هذا الاطار، يقول المفكر الاميركي كينيث والتز، إن أهم سبب لعدم وقوع الحرب بين القوى العظمى، يعود اولا وأخيرا إلى السلاح النووي. لذلك هو يقول انه كلما كثُرت هذه الاسلحة كان افضل، شرط ان يكون اللاعبون عقلانيين كي ينفع الردع.

تتفرد اميركا اليوم عن سابقاتها في قدراتها في كل المجالات، العسكرية، السياسية والاقتصادية. كما هي امبراطورية متطورة في شكلها ومدى تأثيرها. وهي اليوم أولى بين متساوين.

تختلف اميركا عن روسيا في انها صاعدة في الزمان نحو القمة، حيث تتربع الامبراطوريات. اما روسيا فهي كانت قبلا امبراطورية، كما الصين، وتعود او تحاول اليوم العودة إلى المراكز الاولى.

عند الحديث عن أي امبراطورية، يتبادر إلى الذهن فورا موضوع الجغرافيا، أو بالاحرى علاقة الجغرافيا واهميتها بالقرارات السياسية، من هنا تسمية الجيوبوليتيك.

يقول المفكر الاميركي ريتشارد هاس، ان عالم اليوم يتجه نحو عالم «اللاقطب». فالساحة مفتوحة لمن يريد اللعب، من ضمن القانون الدولي او من خارجه، من ضمن المؤسسات الشرعية الدولية او من خارجها. من هنا تسميته للعالم باللاقطبية. حتى ان اكثر الدول الكبرى عدائية لاميركا، تفضل عدم السقوط الاميركي المدوي، على الاقل حتى إيجاد البديل. من هنا سعى الكثير من القوى ليس إلى محاربة اميركا، لا بل إلى ايجاد ظروف تحد من القدرة الاميركية قدر الامكان.

في العام 1962 وقعت أزمة الصواريخ الكوبية بين الاتحاد السوفياتي واميركا. غيرت هذه الازمة العالم الثنائي في ذلك الوقت إلى غير رجعة. فخلال هذه الازمة وصل العالم إلى شفير حرب نووية كان من الممكن ان تُدمر العالم.

وأظهرت هذه الازمة مدى محدودية استعمال النووي. كما ارست هذه الازمة مفهوم الاتصال المباشر بين الكرملين وواشنطن عبر الخط الساخن. وأخيرا وليس آخرا، قسمت هذه الازمة العالم ثلاث مجموعات: اميركا، السوفيات ودول عدم الانحياز.

في مرحلة الحرب الباردة، اعتمدت اميركا على استراتيجية الاحتواء للدب الروسي لمنعه من التوسع والوصول إلى المياه الدافئة. وبسبب عدم القدرة على الصراع المباشر، كان الصراع غير المباشر.

في العام 1962، رد خروتشوف على الاحتواء الاميركي، بخرق عقيدة الرئيس مونرو، التي تعود إلى العام 1823، والتي توحي بان البحر الكاريبي وحتى اميركا اللاتينية هي بحيرة اميركية بحتة.

تمثل الخرق بنشر صواريخ باليستية تكتيكية ذات رؤوس نووية في كوبا – على مسافة 336 كلم من الاراضي الاميركية ـ وقادرة على ضرب العمق الاميركي بأقل من 10 دقائق، وبشكل لا يسمح للاميركيين حتى بالنزول إلى الملاجئ.

عند التحولات الكبرى، تتغير قواعد اللعبة. وما كان من قواعد، لا يعود يناسب ديناميات اللعبة الجديدة. في فترات كهذه، لا تتوافر في جعبة اللاعبين مبادئ مفاهيم واسس مُجربة، مُختبرة وصالحة للاستعمال الفوري. من هنا ضرورة الابتكار. لكن الابتكار في لعبة الامم مُكلف عادة، خاصة ان نتيجته قد تُرسي لفترات طويلة قواعد جديدة، يحتمل ألا تناسب مصالح بعض اللاعبين، الامر الذي يجعل النظام الجديد المُتشكل غير مستقر.

سقط الاتحاد السوفياتي. وقعت كارثة 11 ايلول. التحول عادة يعتبر كبيرا بمقدار ما يغير من قواعد النظام القديم. وفي الحالتين كان التحول جذريا.

بعد سقوط الدب الروسي، امتدت ايادي الغرب ـ خاصة النسر الاميركي ـ إلى مناطق نفوذ روسيا. وهذا ما يدل عليه توسع حلف الناتو.

بعد توسع الناتو، انتقلت اميركا إلى مرحلة جديدة عبر نشر شبكة مُضادة للصواريخ الباليستية والعابرة للقارات. كل ذلك بحجة الخوف من الانظمة المارقة ولاسيما ايران.

تندرج اهمية نشر هذه الشبكة المضادة، في انها تقع على حدود روسيا الاتحادية وبولندا وتشيكيا. وفي انه يمكن تطويرها، ومن ثم ضم المزيد من الدول اليها، خاصة ان التكنولوجيا في هذا المجال اصبحت متوافرة ومختبَرة. وأخيرا، سوف تجعل هذه الشبكة من الصواريخ الروسية خردة في مخازن الاسلحة، الامر الذي قد يقلب توازنات القوى لصالح العم سام.

عند حتمية الحرب، يُقال انه عليك الذهاب إليها بما تملك، إذ لا وقت للاستعداد والتحضير. هكذا هو وضع روسيا تجاه هجمة الغرب على مناطق نفوذها منذ السقوط العظيم. لكن الرد الروسي مؤلم، نظرا لما تملكه روسيا من قدرات، ونظرا لما اعطتها الجغرافيا من قدرة جيوبوليتيكية لا مثيل لها. فهي دولة اوراسية، اطلسية وآسيوية. وهذا امر يسبب لها ازمة في الهوية. وهي دولة تطل وتجاور في حدودها الجنوبية كل القوى الطامحة الى دور مهم في النظام العالمي المُنتظر. هي تجاور الصين، وهي على علاقة استراتيجية وثيقة بالهند. كذلك، هي على علاقة وثيقة بكل الدول التي تعتبرها اميركا مارقة. كما تحتل روسيا المركز الثاني في انتاج النفط بعد السعودية، والمركز الاول في انتاج الغاز الطبيعي. وأخيرا وليس آخرا، هي تطل مباشرة او غير مباشرة، على مركز ثقل العالم لمرحلة ما بعد الثنائية، الا وهو منطقتا الشرق الاوسط وآسيا الوسطى.

كيف ترد روسيا اليوم على التحدي؟

إذا اردت ان تحارب الخارج، فما عليك إلا ترتيب بيتك الداخلي. هكذا فعل بوتين بعد يلتسين. فهو استرد السيطرة على الداخل، سياسيا، امنيا واقتصاديا، خاصة عبر سيطرة الدولة على كل مرافق الطاقة. فماذا عن الرد في المحيط المباشر، كما عن الرد في الدائرة البعيدة؟

في محيطها المباشر، تُعاقب روسيا تماسها المباشر والمُتعامل مع العم سام. كل ذلك عبر استخدام الطاقة كسلاح سياسي ـ نفط وغاز طبيعي. كذلك، تستعمل روسيا حروبا من نوع جديد – Cyber warfare - كما حصل ضد استونيا عندما شٌلت اعمال الحكومة الاستونية بالكامل. كذلك، تٌهدد روسيا بنشر صواريخ نووية متوسطة المدى في كل من روسيا البيضاء وكاليننغراد كلها موجهة ضد القواعد الاميركية في تشيكيا وبولندا. وأخيرا وليس آخرا، تبدو المعارك التي تدور في جورجيا وكأنها استراتيجية ومؤشر عودة الدب الروسي إلى استرداد تأثيره في محيطه المباشر، خاصة بعد ان ضرب الغرب بعرض الحائط اعتراض روسيا على استقلال كوسوفو.

أما في الدائرة البعيدة، فتحاول روسيا افتعال المشاكل لاميركا كي تلهيها وتستنزفها: ايران، سوريا، كوريا الشمالية وحتى فنزويلا وغيرها. وتحاول أيضا منع الاصطفاف الهندي مع اميركا. كما تسعى روسيا إلى تزويد الصين بقدرات بحرية كي تنافس اميركا في المحيط الهادئ، خاصة ان تلك المنطقة تعتبر خلفية روسيا، حيث لا قدرة بحرية لها هناك. وإلا فما معنى حل الخلاف الحدودي مع الصين الذي تسبب بحرب بين البلدين العام 1969؟

وتستغل روسيا ايضا موقعها في مجلس الأمن لمنع تفرد اميركا في الأمن العالمي وأخيرا وليس آخرا، وهنا بيت القصيد. سربت روسيا خبر إمكان إعادة احياء وجودها العسكري في كوبا ـ المحيط المباشر لاميركا ـ جوا، او بحراً. فهل نحن امام ازمة كوبية جديدة؟ بالطبع كلا لان كل الظروف مختلفة اليوم. إذاً امام ماذا نحن؟ بكلام مختصر، نحن امام لعبة جيوبوليتك جديدة، ومرحلة ابتكار لقواعد وسلوكيات جديدة غير مُجربة كما قلنا اعلاه. إذاً، الساحة العالمية اليوم هي كلها ساحة الاختبار. فحذارِ الحسابات الخاطئة.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي