هل ملف المفقودين شائك إلى هذا الحد؟

TT

حسناً فعل الرئيس اللبناني ميشال سليمان في أن تكون زيارة دمشق باكورة زياراته الخارجية بعد توليه منصب الرئاسة. فلا نتيجة تُرجى من أي توجه سياسي لأي قيادة تجهل أو تتجاهل اعتبارات التاريخ والجغرافيا.

وكان ضرورياً أن يعرض الرئيس سليمان على القيادة السورية مسائل يعتبرها بعض الشارع اللبناني مصيرية كتبادل السفراء وترسيم الحدود والتساؤل عن مصائر المفقودين في سورية وأولئك الذين يقال إنهم موجودون في سجونها.

وكان مفيداً أن يصغي لما ستقوله القيادة السورية حول هذه المسائل وغيرها لجملة أسباب، في مقدمها دور سورية المؤثر في حياة لبنان على امتداد ثلاثة عقود، وارتباط جزء من اللبنانيين بالحكم السوري وسياساته المعلنة تجاه لبنان، وتحالفات الحكم السوري التكتيكية والاستراتيجية الإقليمية والدولية التي تمس ليس فقط لبنان بحكم كونه «الجار» الصغير بل تمسّ تركيبته الفئوية أيضاً كونها فاعلة في المناخات الإقليمية ومنفعلة بها.

ولقد كان طبيعياً أن يختلف تقييم الزيارة بعد إنجازها بين الأفرقاء اللبنانيين، وحتى ضمن الفريق الواحد.

فثمة من يعتقد أن مجرد موافقة دمشق على تبادل السفراء وترسيم الحدود يشكل خطوة جبارة تؤكد رسمياً «استقلال» الكيان اللبناني، بما يعني وقف «المطالبة» السورية به كجزء مسلوخ عن الوطن الأم نتيجة مؤامرة استعمارية بغيضة.

وهناك فريق ثان يرى أن ما تحقّق كان خطوة ضرورية لكنها غير كافية، طالما أن القضية محالة إلى لجان، وطالما أن عقارب الساعة تمضي مسرعة نحو انتخابات عامة تأمل دمشق منها أن تقلب الميزان السياسي، فتعمد الأغلبية الجديدة المكونة من «حلفائها» ـ على حد قول نائب الرئيس السوري فاروق الشرع ـ إلى التراجع عن هذه المطالب انسجاماً مع مبدأ «وحدة المسار والمصير».

ثم أنه يوجد فريق ثالث ما عاد يصدّق شيئاً ممّا يصدر عن دمشق، ويبرّر انعدام ثقته هذه بتجارب ومواقف ووعود مقطوعة ومناورات عمرها أطول من عمر دخول القوات السورية إلى لبنان في منتصف السبعينات من القرن الماضي بحجة وقف الحرب الأهلية اللبنانية. ومعلوم أن تلك الحرب لم تشهد نماذج مبهرة من إصرار اللبنانيين على الانتحار فحسب، بل شهدت أيضاً نماذج للقدرة العجيبة عند الحكم السوري على تبديل «الحلفاء» حيث تدعو الحاجة في أي زمان وأي مكان وتحت أي شعار مناسب. وكان الشعار الأنسب، غالباً، «عروبة لبنان» باعتباره يتوافق مع شعار حزب البعث العربي الاشتراكي، مع العلم أن أول من ضربتهم القوات السورية الداخلة إلى لبنان كانوا مَن ينادون بعروبة لبنان ويَدعون العرب كلهم للدفاع عن «المقاومة» الفلسطينية يومذاك.

في مطلق الأحوال، تأخر اللبنانيون كثيراً في ادراك كم أخطأوا في حق أنفسهم ووطنهم ـ وللأسف ما زال بعضهم يخطئ ـ، وأخطأوا أيضاً في فهم طبيعة الحكم السوري ونهج تفكيره وحجم الدعم الذي يحظى به ويمكن أن يحظى به خارجياً.

كانت هناك، فرصتان للاستيعاب: الأولى عند دخول القوات السورية بضوء أخضر دولي في منتصف السبعينات، والثانية عند تجديد التفويض الدولي لدمشق مع الاحتلال العراقي للكويت. غير أن اللبنانيين، قياداتٍ وجماهير، سمحوا لأنفسهم بأن يصدّقوا أن إسرائيل يمكن أن تتعايش «مضطرةً» مع حكم يمسك بزمام الأمور في دولة متاخمة لها منذ 1970. وتوهّموا أن صانعي القرار الكبار يتأثرون بالشعارات الراديكالية التحرّرية الممانعة.. التي تُرفع لتضليل شارع عربي مراهق متعطش لجرعة كرامة.

أول الصحوة جاء مع دخول نيكولا ساركوزي قصر الإليزيه. ثم تأكدت على وقع الإعلان عن المفاوضات «غير المباشرة» بين دمشق وتل أبيب .. مع تذكّر اللبنانيين كلاماً قديماً جديداً لأكثر من مسؤول أميركي عن الحاجة إلى «تغيير سلوك دمشق» ودعوة سورية إلى قمة آنابوليس.

الآن، رغم الاختلاف على تقييم حصيلة ما عاد به الرئيس سليمان من دمشق، وبالرغم من الهوة العميقة والواسعة التي باعدت بين اللبنانيين منذ أحداث أيار (مايو) الماضي، يشعر كثيرون أنه لم يتبقّ هناك الكثير من المواقف الخفية، وأن الأمور سائرة نحو الانكشاف من دون أن يقللوا من خطورة الأثمان التي قد يترتب عليهم وعلى وطنهم دفعها.

أما الثمن الأخطر فهو طبعاً الثمن الإنساني، ولذا كان الجانب الأكثر سلبية في حصيلة الزيارة الموقف الرسمي السوري من قضية المفقودين.

فلِمَن يتخوفون من أن تتحوّل السفارة السورية المقبلة في بيروت إلى مركز استخباراتي جديد، يجب القول إن المسألة في النهاية مسألة أسلوب وحدود ممارسة، لأن جزءاً أساسياً من دور أي سفارة في أي مكان في العالم الاطلاع وارسال التقارير. ولِمَن يشعرون بقلق من تأخر ترسيم الحدود يجوز التذكير أن الترسيم في حد ذاته لا يخلق «سيادة» .. خاصة إذا كان فريق من أبناء الوطن لا يريده سيداً ولا مستقلاً.

أما موضوع المفقودين فخطير وخطير جداً لأنه يتعلق بأشخاص لا يعرف ذووهم ما إذا كانوا أحياءً أم أمواتا، وغالباً لا يعرفون سبب اختفائهم. وكان غريباً حقاً من دبلوماسي بكياسة وزير الخارجية السورية السيد وليد المعلم أن يردّ بإثارة موضوع المفقودين السوريين في لبنان، لأسباب، لا شك، يعرفها السيد الوزير جيداً.

فالمفقودون السوريون في لبنان، الذين قيل إن عددهم يقارب الـ700 والذين اختفى معظمهم قبل الانسحاب العسكري السوري من لبنان، فقدوا، أولا في بلد كانت تمزّقه الفوضى والحرب الأهلية وانعدمت فيه سلطة الدولة فعجزت حتى عن حماية أبنائها. وثانياً، في بلد خضع للسيطرة الأمنية السورية بالكامل لمدة ثلاثين سنة، وبالتالي، كان حريّاً بالسلطات السورية طوال تلك الفترة أن تكشف ملابسات اختفائهم. لذا، إذا كان الوزير المعلم يعتقد أن المسألة شائكة ومعقدة، فلماذا لا يوكل إلى الأمم المتحدة أمر ضم ملف المفقودين اللبنانيين والسوريين إلى اهتماماتها. وهكذا تلاحق المنظمة الدولية ظروف اختفائهم سواء في فترة الحرب الأهلية اللبنانية، أو السيطرة السورية الأمنية على لبنان، ... أو حتى فترة السيطرة اللبنانية الأمنية على سورية ... إذا حصلت والعالم في غفلة عنها!