تصفني بـ«متطرف».. بل أنت المتفلت

TT

إعلامي عربي بارز جمعنا به لقاء مشوق، وقد تطرق النقاش إلى الفضائيات العربية التي تعج بها سماؤنا العربية، وعلى وجه الخصوص الفضائيات الإسلامية، سألوه عن رأيه في فضائية إسلامية منافسة فوصفها بـ«المتشددة» فقط لأنها تحظر خروج المرأة على شاشتها، وكان الأمر سيبدو مقبولا لو أنه وصفها بـ«المحافظة»، ثم اعترض من وجهة نظره على عدم إظهار صورة المرأة، لأن مسألة تغطية المرأة وجهها يجيزه كثير من علماء المسلمين، أو أن رسالة القناة سيصيبها خلل، لو لم تخرج على شاشتها النصف الآخر من المجتمع. بيت القصيد هنا وصف القناة بـ«التشدد» فقط لأنها تبنت رأيا شرعيا سائدا ومعتبرا في العالم الإسلامي، ويحترمه حتى أكثر العلماء تسهيلا على العامة.

حين تحكم على طرف بأنه متشدد أو متطرف أو منغلق، فتوقع كنتيجة حتمية أن يرميك بالتفلت والتساهل والتميع، والعكس صحيح. لغة الإعلاميين ما برحت تفتقر إلى أبسط أبجديات الحوار، وهذا مع الأسف ما نفتقده على كل الأصعدة والطبقات والتوجهات، إذ لا يمكن أن يتقبل الطرف الآخر رأيك فيه وأنت تصفه بالأوصاف السلبية التي تراها فيه، لأنك بمجرد أن تصف غيرك بالمتشدد والمتطرف والأصولي، أو تصفه بالعلماني والمتفلت وعدو الدين والملة، فإنك تسمم أجواء الحوار فلا تجعلها بيئة تصلح للحوار ناهيك من الاقتناع والقبول مهما كنت متمترسا بالحجج القوية والبراهين المقنعة. خذ مثلا الأسلوب القرآني في وصف غير المسلمين بالكفار وهذا شائع ذائع في النصوص الشرعية، ولكن حين ينزل القرآن إلى ميدان الحوار يلطف العبارة ويهيئ الأجواء للحوار فيتحول إلى «يا أهل الكتاب» وهي درجة من المجاملة لا تجرح المخالف ولا تخرم المعتقد.

وهذا الأسلوب ينطبق بالضرورة بل هو حتمي على اجتهادات العلماء والمشايخ والمفكرين والكتاب. سمعت شيخا وهو يصف آراء شيخ ومفكر مشهور بـ«المايعة»، فقط لأن له اجتهادات ورؤى في الإصلاح لا تتفق مع رؤى هذا الشيخ ومنهجه في الدعوة. قلت له: مثل هذه الأوصاف لا تهيئ مناخا صحيا للحوار والأخذ والرد والإقناع، وعليه يا فضيلة الشيخ لا تستكثر عليه لو وصف آراءك بالمتشددة أو المتطرفة. ثم ذكرت له التعبير الدقيق للسلف في وصف الاجتهادات المختلفة للصحابة رضوان الله عليهم، إذ أن هناك مدرستين مختلفتين يقودهما عبد الله بن عباس، الذي ينزع إلى التسهيل، وعبد الله بن عمر الذي يأخذ بالأحوط، فكان للعلماء وصف دقيق لهذا الاختلاف تنداح منه الرقة والأدب في وصف الآراء المتباينة، فقالوا «رخص بن عباس وعزائم بن عمر».

ولو انتقلنا إلى أنموذج رائع لعالم معاصر في التعامل الأمثل مع المخالف، فلن أجد مثل العلامة ابن باز رحمه الله، وهو من هو في تقواه وورعه وتدينه وحرصه على حماية جناب التوحيد وحدود العقيدة، ومع ذلك فلم تند منه عن غيره ممن يختلف معه عبارة متوترة أو وصف حاد، وما زلت أذكر لقاءه بالشيخ محمد الغزالي، الذي ألف كتابه الشهير «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» الذي حوى أسلوبا حادا وساخرا في نقد السلفيين، الذين كان ابن باز أستاذهم ومرجعهم، ومع ذلك تلطف ابن باز في لقاء الغزالي، وأسدى له الملاحظات بكل لطف وأدب حتى قيل إن الغزالي عرض كتابه على ابن باز وقال «دونك كتابي فاثبت ما ترى واحذف ما ترى».

لكل فعل ردة فعل، فانظر إلى موطئ عباراتك ووصفك لغيرك، وانتظر ردة الفعل سلبا أو إيجابا، وما زرعه لسانك ستحصده من غيرك ثمرا حلوا أو علقما مرا.

[email protected]