المؤسسة العسكرية: الانقلاب التقليدي والانقلاب العقائدي

TT

أتيت بملابس لي إلى مكتبي في الصحيفة. كنت أعتزم إيداعها مغسلة مجاورة للتنظيف والكي. لكن الأحداث الساخنة التي يعيشها بلدي شغلتني عنها. كانت سورية، كعادتها بين الاربعينات والستينات، تعيش تحت وطأة التهديد المستمر بالانقلابات العسكرية. بالفعل، حدث الانقلاب في الهزيع الأخير من الليل.

فوجئت صبيحة الانقلاب بمكاتب الصحيفة مغلقة بالشمع الأحمر. استولى الانقلابيون على ملابسي. بل كانت الصحافة السورية كلها تفقد ملابسها في الانقلابات: تعطيل. إغلاق. اعتقالات. لم أفكر باستعادة الملابس. لم تكن فكرة المطالبة بالتعويض، معروفة أو مطروحة آنذاك. مئات الصحافيين وعمال الإدارة والطباعة يتشردون. لا أحد يحمي عملهم وحقوقهم. لا أحد يجرؤ على مراجعة العسكر (حماة الديار).

سورية عرفت، في البداية، الانقلاب التقليدي (الكلاسيكي). انقلاب عسكري يقوم به كبار الضباط، من دون أي رابط عقائدي بينهم. مجرد حسن نية في التغيير، أو الطموح الشخصي، أو أصابع التدخل الخارجي. لكن المصير المشؤوم جمع بين قادة الانقلابات الكلاسيكية: أعدم حسني الزعيم. اغتيل سامي الحناوي وأديب الشيشكلي.

ليس صحيحا ان سورية هي التي دشنت الانقلابات في الحياة العربية المعاصرة. مصر سجلت أول انقلاب (انقلاب عرابي في أواخر القرن التاسع عشر). تلاه انقلاب بكر صدقي في العراق (1936). ثم انقلاب في اليمن قاده أيضا الضابط العراقي جمال جميل (1948). هذه الانقلابات الكلاسيكية حملت في طياتها سمات آيديولوجية إصلاحية.

انعدام الوعي بقيمة وأهمية النضال السياسي السلمي، كسبيل وحيد للتغيير، هو الذي فتح المجال أمام الانقلاب التقليدي. رحب السوريون بانقلاب حسني الزعيم ضد جمود نظام الرئيس الطيِّب شكري القوتلي. لكن إخفاق الضباط الكبار التقليديين في إحداث تغيير حاسم، ما لبث أن قوبل بخيبة وفتور في الشارع.

انقلاب الانفصال على الوحدة مع مصر (1961) كان انقلابا كلاسيكيا قاده ضباط دمشق من أبناء الطبقة الوسطى الخائفة على «الخصوصية» الشامية من تذويبها بالبحر المصري. بل أستطيع ان أصف انقلاب صلاح جديد (1966) بالكلاسيكية. فقد دشن صراحةً حكم الطائفة الذي رسخه انقلاب حافظ الأسد (1970). فعل الضابطان ذلك تحت أعلام آيديولوجية تروتسكية وقومية.

الساسة المدنيون السودانيون صنّاع الاستقلال. سلموا، بشكل معيب ومدين لهم، النظام الديمقراطي الوليد للعسكر بقيادة الجنرال إبراهيم عبود (1958) بانقلاب كلاسيكي ابيض. قاد الجنرل عبد الرحمن سوار الذهب (1985) انقلابا كلاسيكيا مهد لعودة الديمقراطية. سوار الذهب اسم على مسمَّى. لعله أشرف وأنبل الضباط العظام الكلاسيكيين الذين قادوا انقلابات في العالم العربي.

كان إحباط الجيش الجزائري لمشروع حكم «جبهة الانقاذ» انقلابا كلاسيكيا صرفا ضد مشروع آيديولوجي شمولي يحمل طابع الإسلام السياسي. الانقلاب الموريتاني الراهن آخر طبعة للانقلابات الكلاسيكية العربية.

موريتانيا، الأكثر صفاء ونقاء في عروبتها. لم تؤدلج بعدُ صناعة الانقلاب. لا الجيش عرف الآيديولوجيا القومية أو الإسلامية. ولا الشعب يملك الوعي لجعل الديمقراطية قضية حياة أو موت.

ادعاء الانقلابيين بأنهم آتون لحل «كل» مشاكل الناس، نوع من السذاجة السياسية، ترحيب المعارضة بالانقلاب كان نكاية بالنظام المدني، ولا يعبر عن نضج سياسي. مبادرة الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله لإقالة «جميع» الضباط الكبار، تدل على عدم دراية بتجربة الرئاسة. كان بالإمكان معالجة تدخل العسكر في السياسة عبر ترسيخ حكم المؤسسات.

اللعبة الديمقراطية تفرض الحوار السلمي. تفرض الصبر على الخلاف والشقاق. الحوار يأخذ وقتا. ليس هناك حسم بالعنف والقوة كما يظن العسكر. فن المساومة هو الذي يبلور الحوار، ويصل به إلى تسوية مقبولة. لا ضرورة للاستعجال. لكن لا بد من الاختصار في بلورة القرار. يكفي مجلس للنواب (البرلمان). ليست هناك حاجة للتسويف والمماطلة باضافة «مجلس لوردات أو أعيان» يعرقل أحيانا مهمة نواب الشعب، وينحاز إلى السلطة التنفيذية التي نَصَّبَت «اللوردات» بالتعيين والاختيار.

لم يَرْقَ النضج السياسي في العالم العربي إلى احترام «شرعية الانتخاب». ما زالت هذه الشرعية مزيفة لصالح الشرعية التنفيذية. الديمقراطية تقدم المسؤول المدني المنتخب فوق أي مسؤول إداري أو عسكري. وزير الدفاع في الديمقراطية الغربية الراسخة مسؤول مدني يخضع له الجنرالات. الاميرال فالون، وليس الرئيس بوش استقال أخيرا من قيادة القوات الأميركية في غرب آسيا عندما اختلف الاثنان حول الاستراتيجية العسكرية في الشرق الأوسط.

كان على المؤسسة العسكرية الموريتانية أيضا ان تمارس الصبر على رئيس متقدم في السن (72 سنة)، سيما أن انتخابه تم بحرية اقتراع لم يعرفها العالم العربي كله. ضباط الانقلاب يناقضون أنفسهم بأنفسهم عندما يقلبون رئيسا شرعيا دعمت مؤسستهم ترشيحه.

المؤسسة العسكرية الغربية لا تتدخل في السياسة. هي عموما كالكنيسة على اليمين. لا يعني ان الحكم المدني لا يقيم وزنا لها. فهو يستشيرها، لا سيما عندما تستدعي الحاجة الى مغامرة عسكرية خارجية. فن اللعبة الديمقراطية فرض على الرئيس ساركوزي ارضاء المؤسسة العسكرية الفرنسية بمشروع تحديث القوات المسلحة، في مقابل قبولها بتخفيض عدد عساكرها بنحو 56 ألف ضابط وجندي واداري.

عرف العرب الانقلاب العقائدي (الآيديولوجي). كان الانقلاب الناصري إصلاحيا (1952) ثم اعتنق الآيديولوجيا الاشتراكية الماركسية في الستينات. حزب البعث ارتكب خطأ العمر بتخريب الجيش وأدلجة صغار الضباط. عندما كبر هؤلاء في الرتبة، علقوا النجوم على الاكتاف ونياشين «النصر» على الصدور، وقلبوا حكم «الأساتذة». عسكرة الحزب هو الذي ادى به الى حكم عساكر الطائفة في سورية، وعساكر العشيرة في العراق.

كان انقلاب نميري والقذافي والبشير آيديولوجيا. تدروش نميري بالسير كالسادات. من اليسار إلى أقصى اليمين. القذافي أذكى. نفض يده من «النظرية» الثالثة. انقلب على الآيديولوجيا. ساير الغرب في الخارج. اطلق الحزب يده في الداخل. «أسلمة» انقلاب البشير لم تنقذه من المسؤولية أمام المجتمع الدولي. الاسلمة الحقيقية لا ترتكب خطأ تأليب مسلمي «الجنجويد» على أشقائهم المسلمين الافارقة في دارفور. لكن اسلمة حماس فضحت ديمقراطية الاخوان المزعومة. فقد قلبت حكم الشرعية المهزوزة في غزة.

الانقلاب الكلاسيكي شر. والانقلاب الآيديولوجي شر. فأي الشرين تختار؟ الواقع ان «نظرية» الانقلاب تراجعت لدى العسكريتاريا العربية. هناك عزوف لدى العساكر عن المغامرة. ليس بدافع العبرة بما حدث لعساكر آخرين، انما لاعتقادهم بأن الحكم بالقوة فن صعب، إن لم يكن مستحيلا، مع مسيرة العالم كله، نحو الديمقراطية المدنية.

ما زال النظام الخليجي والمصري أكثر الأنظمة العربية رسوخا. تحييد خطر المؤسسة العسكرية، بصمود نفوذ ورقابة المؤسسة الأمنية، وفر استقرارا فريدا لمصر والخليج في منطقة شديدة الاضطراب والعنف. النظام العربي أَحْكمَ حماية نفسه، حتى من شر «الصديقة» أميركا، وجنب مجتمعاته مآسي الانقلابات والفواجع الدموية في العراق وافغانستان والصومال.