كنز «أصيلة»

TT

قيمة المرء ما يحسن، هكذا قيل قديما، وما زالت المقولة صالحة وفاعلة، سواء للمرء والفرد أم للناس والمجتمعات.

جالت هذه المقولة القديمة في خاطري وأنا أتمشى في أزقة أصيلة المغربية على ضفاف المحيط الأطلسي الكبير، أو بحر الظلمات كما كان الأوائل يقولون.

جلت فيها هذه الأيام التي انعقد فيها مؤتمر جريدة «الشرق الأوسط» بمناسبة مرور ثلاثين عاما على انطلاقتها، وهي ذات المناسبة الثلاثينية التي يحتفل فيها مهرجان أصيلة بانطلاقته.

سار بنا «السي» محمد بن عيسى، عراب أصيلة في طرقات البلدة الضيقة والمغسولة برذاذ المحيط، يكتسي جدرانها لون البياض مجللا بتيجان أو أحزمة زرقاء أو براقع زرق على أهداب النوافذ المشرعة على شاطئها المعانق للأزرق الكبير.

سار بنا وهو يتحدث عن جدارية رسمها أو رسمتها فنان أو فنانة من شرق الأرض أو غربها، خلقوا بريَشِهم وأصباغهم صورة المكان وإيحاء للحظة والناس على جدران البلدة الأصيلة.

هنا مدرسة قديمة، وهنا مرسم يجتمع فيه فنان فرنسي مسن مع فنانة يابانية ومعهما فنان مغربي يكتسي لحية خفيفة، وابتسامة وادعة. وهنا قصر الثقافة، حيث تعقد ندوات وجلسات المؤتمر.

سألنا بن عيسى عن المرسم ومن فيه، وما هي طريقة جلب هؤلاء الفنانين الى هنا، فقال وهو يمازح أحدهم، نحن نجلب بنصف تذكرة الطيران وهم يتحملون نصفها، ونتكفل بإقامتهم وطعامهم، وتأخذ إدارة منتدى أصيلة أربع نسخ من أعمالهم الفنية، وتكسر قالبها، كما قال لنا الوزير بن عيسى وهو يبتسم ابتسامة تشعر بالرضى عن الوصول الى حالة الزواج الفريد بين البزنس والثقافة في أجمل صورها.

في ردهات قصر الثقافة العتيق وفي قاعة الحسن الثاني للمحاضرات والمناشط الأخرى، تجد شبانا وشابات وكبارا وصغارا يخدمون في كل مجالات الدعم للمهرجان، جلهم كما سألت من أهالي أصيلة، وينشطون قرابة ثلاثين يوما، هي مدة فعاليات أطول مهرجان ثقافي فني عربي، هو مهرجان أصيلة.

الفكرة في الموضوع هي كيفية تحويل مزايا معينة لهذه البلدة الوادعة، الى مصدر للتنمية الاقتصادية بالاتكاء على عاملي الثقافة والفن، وهما مصدر للتنمية الاقتصادية، كما هي منبع الارتقاء والتنوير، الثقافة أو الأدب أو الفن تحولت هنا الى محركات اقتصادية، في حين يعتقد كثيرون أن هذه الأنشطة مهنة لا تكسب مالا ولا ثراء، بل مجرد قدر أو هواية للمتعة العقلية أو الروحية الخالصة، وهو ما حقق مقولة يرددها القيمون على مهرجان أصيلة: الثقافة في خدمة التنمية.

مهرجان أصيلة حول كل حجر في البلدة الى نبع جمالي يدر ربحا على أسس تجارية، فقصر الثقافة، التحفة المعمارية المغربية، تحول من مجرد قصر خرب لثائر مغربي في بداية القرن المنصرم اسمه احمد الريسوني، والبعض يراه قرصانا، الى قبلة سياحية ثقافية، وقاعة الحسن الثاني التي كانت مخزنا للحبوب وإسطبلا للخيل كما قال لي احد أبناء المهرجان، تحولت الى مسرح يدوي كدوي النحل بالمحاضرات والندوات في كل مجال، من الإعلام الى السياسة الى الأدب الى السينما الى لقاء الحضارات، وألقى فيه العشرات من المفكرين والساسة وأهل الإعلام والفن المحاضرات في جنباته.

كم زائر يوقت ساعته على صيف أصيلة كل عام؟ وكم مستثمر يريد بناء شيء مربح في هذه المدينة، وفق مزيتها، بل كم متبرع، لا متربح، فقط يريد دعم هذا التوجه نحو تعزيز القيمة الثقافية والجمالية للمدينة؟ وكم رجل أو امرأة يعمل في هذه المدينة على حس المهرجان، وكم شاب او شابة تأثر بزائري المدينة واكتسب منهم خبرة نصيحة تعليمية أو عملية وجهت بقية حياته، وكم وكم..

إذا كانت أصيلة، وهي البلدة الصغيرة على ضفاف الأطلسي، قد ثورت كل مزاياها، واعتصرت كل قدراتها، من اجل تعزيز دور المدينة ورفع مستوى التنمية فيها من خلال استغلال العامل الخاص فيها، وهو عامل الفن والجمال والهدوء، والذي تحول بالمناسبة، اعني الهدوء، الى صفة تميز سكان البلدة الذين تشعر بهم وهم يرحبون بكل اريحية بزوار البلدة، ويعرفون مزايا بلدتهم، ولم أشاهد أي طفل أو مراهق لوث أو رشق جدارية من الجداريات التي تزين أزقة اصيلة، رغم ان ذلك من شقاوات المراهقين المعتادة.

اذا كانت اصيلة فعلت ذلك رغم أن الثقافة لا تكسب بالعادة في عالمنا العربي، فكيف بالمدن العربية الأخرى، الأكبر والأثرى؟ وكيف بمواقع أخرى في العالم العربي زاخرة بمزايا نسبية، خارج إطار الثقافة والفن، او داخلهما، لم تفعل كما فعلت اصيلة؟

مثلا: ماذا لو تم توزيع التنمية الثقافية والجمالية في كل بلد حسب مزايا مدنه وأقاليمه، في سوريا تكون السياحة الجبلية والبحرية، مرفوقة بنشاطات ثقافية، لطرطوس واللاذقية وشقيقاتهما، والصحراوية في تدمر وبادية الشام والجزيرة، وتقوم صناعة كاملة حول مدن الآثار الشامية العريقة، ما بين رومانية وإسلامية وتركية، وغيرها، وفي الأردن تكون السياحة التاريخية للبحر الميت، ونهر الأردن حيث مغطس المسيح، وبتراء الأنباط، وأيضا آثار الإسلام مثل بقايا معركة مؤت، وهكذا.

أعرف ان هناك نشاطات سياحية في هذا المواقع، ولكن ما نعنيه شيء آخر، ليس مجرد زيارة عابرة في زمن عابر، بل «مؤسسة» شاملة، تحول مزايا المكان والسكان الى مصدر ثري للتنمية الاقتصادية والإنسانية ايضا، أي تحول المكان الى: ثقافة واقتصاد.

ولو خرجنا من اطار الثقافة والآثار والفنون، وذهبنا باتجاه آخر، ماذا لو تم تثوير المزايا الخاصة بكل موقع في السعودية ـ مثلا ـ بما يناسبه، فصناعة التنقيب عن الذهب تنشئ حولها في منطقة مهد الذهب والصخيبرات صناعة كاملة ومجتمع متكامل، وخدمات مساندة، وفي جيزان جنوب السعودية تقوم صناعة صيد للأسماك واستغلال مزايا المنطقة في صناعة صيد بحرية واستغلال لنتاجها الزراعي التهامي، وإقامة شركات استراتجية، كما حصل مع شركة سابك التي قامت في الشرق السعودي، وأقامت معها مجتمعا كاملا حولها يتمحور حول صناعة البتروكيماويات، ونفس الأمر في صناعات المعادن التي تملك السعودية منها ثروات ومواقع مهمة، لدرجة أنها قد أنشأت شركة معنية بالمعادن بأمر ملكي، كل هذا سيسهم في تفجير الطاقات وخلط المجتمع على أساس تنموي اقتصادي، الأمر الذي سيعزز المبادرة الفردية والروح المثابرة خارج إطار الجماعة التكافلية التقليدية القاتلة أو المضعفة لنزعة الروح الفردية، التي هي أساس النهضة الاقتصادية الحديثة في ما يخص دور العامل الإنساني.

كل مكان ينبت العز طيب، كما قال المتنبي، وكل مكان ينطوي على بذور حياته وكنوزه الخاصة، حتى ولو بدا خاليا من أسباب الحياة، من يرى ومن يحفر تحت الطبقة الوهمية الظاهرة، سيخرج الكنوز، ويطلق نوافير التنمية الكامنة، ويبنى العنصر البشري أولا وأخيرا.

وهذه هي «الروح» التي بدأت تنشط الآن في التخطيط السعودي وهي ثقافة الملك عبد الله الواضحة.

فيما يروى عن أصيلة أن النورمانديين، في الزمن الغابر، غزوا سواحل أصيلة للبحث عن كنوز وأموال مخبوءة في باطنها، وحين تسامع البربر قصدوها وأكثروا اللبث فيها، ثم أقاموا سوقا عمومية تنعقد ثلاث مرات في السنة، فقصدها الناس من الأندلس وسائر الأمصار فخيموا بها وبنوا شيئا فشيئا حتى أصبحت مدينة معمورة، لكن أحدا لم يجد الكنز المخبوء.

الكنز الذي بحث عنه البربر والنورمانديون في أصيلة، كان موجودا، لكنهم لم يروه، لكن اكتشفه بعض أهل أصيلة منذ ثلاثين عاما فقط، قادهم محمد بن عيسى، فلمع ذهب أصيلة المخبوء منذ الأزل، على شكل جداريات ولوحات وندوات ومحاضرات وفنون، فقط من يرى؟