المأزق التركي في القوقاز

TT

زيارات ولقاءات جس النبض التي يجريها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خصوصا جولته الاخيرة الى روسيا وجورجيا تتجاوز الرغبة التركية الرسمية المعلنة حول المساهمة في انهاء الاقتتال المندلع في القوقاز ومحاولة اعادة احياء المشروع القديم ـ الجديد «ملتقى الامن والتعاون لدول القوقاز» الذي سبق وطرحه الرئيس التركي الاسبق سليمان دميرال في منتصف التسعينات لكنه لم ينل الدعم الاقليمي المطلوب وقتها.

الاستراتيجية التركية المعتمدة في مناطق البلقان وآسيا الوسطى منذ مطلع التسعينات والتي ترفع شعار تبني سياسة انفتاحية متوازنة مع دول تلك المناطق وفي مقدمتها روسيا وايران رغم دور تركيا الأساسي في حلف شمال الاطلسي وطلب العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي والتي وفرت لها ولسنوات طويلة البقاء بعيدا عن سياسة المحاور والتحرك الواسع في منطقة البحر الأسود عبر تقاسم النفوذ مع روسيا هناك واشتراكها في مشاريع بحر قزوين وخطط امدادات الطاقة المنطلقة من أذربيجان وجورجيا نحو أوروبا الغربية دون أن تكون دولة منتجة، كل هذا الجهد المبذول بصبر وعناية سيتعرض للاهتزاز والسقوط اذا ما دعت أميركا وأوروبا الغربية مثلا الحليف التركي لاعتماد استراتيجية اكثر تشددا حيال روسيا بسبب تفاقم الحرب في القوقاز.

باختصار الحرب الروسية ـ الجورجية ومضاعفاتها ستقود حتما الى تقليص حرية الحركة الاستراتيجية التركية وتحرمها من لعب واستخدام الكثير من الأوراق التي تملكها وتهدد مرحلة شهر العسل بين تركيا والكثير من القوى الاقليمية والدولية في مقدمتها روسيا واوكراينا وبلغاريا طبعا.

فـ«الحياد» التركي هذا الذي يعزز من مكانة ودور أنقرة المستفيدة الى أبعد الحدود من وضعها الجيو استرتيجي أزعج كما يبدو البعض وأغضب البعض الاخر وجعل من ثمار السياسات التركية التي وفرت لها عشرات المشاريع والفرص الانمائية والاقتصادية والاستراتيجية المهمة هدفا رئيسيا للضرب والتدمير.

تركيا التي تعرف أن خدماتها وحسابات مصالحها التي بنتها في جورجيا خلال السنوات الاخيرة خصوصا من خلال الدعم العسكري وخطط التسليح والتدريب التي قدمتها الى الجيش الجورجي أصيبت في العمق لكنها تعرف جيدا أنها ملزمة بحماية حجارتها من السقوط رغم كل شيء. وهي قبل كل شيء لن تكون متساهلة مع كل من يتعرض الى ما بنته في السنوات الاخيرة من علاقات ومشاريع يتقدمها مثلا حماية ارتباطها الغازي بروسيا الذي يضمن لها أكثر من نصف استهلاكها وتداخل مصالحها معها في البحر الاسود والبلقان واسيا الوسطى عبر مشاريع خطوط امدادات الطاقة هذا الى جانب أرقام كبيرة من حجم التبادل التجاري اعد لها البلدان بصبر وعناية.

تركيا تعرف أيضا أن المغامرة التي بدأها الرئيس الجورجي حصان طروادة أميركا وبعض الدول الغربية في اوسيتيا الجنوبية لن تصنف على انها خطأ سياسي فردي يرتكب بل هي حلقة ضمن مخطط شامل يهدف الى اعادة خلط الحسابات وتنظيم حركة المرور في أماكن ترى فيها هذه القوى امتدادا لحديقتها الخلفية الجديدة وهي شاركت لسنوات في رسم سياساتها ضمن عملية المد والجزر القائمة هناك منذ حوالي 20 عاما.

ما تعرفه أنقرة كذلك هو أن الجهود التي تبذل لوقف اطلاق النار والعمليات الحربية في القوقاز قد تنجح في وضع حد مؤقت لاراقة الدماء والتدمير والتهجير لكن ذلك لن يمنع حتمية المواجهة السياسية واندلاع حروب أخرى متعددة الوجوه والجوانب طويلة الامد في منطقة عرفت أصلا استقرارا اصطناعيا هشا وهي دائمة الجهوزية لانفجار أمني وسياسي أكبر بسبب تضارب المصالح والسياسات.

أنقرة تعرف انها تقف أمام اختبار إقليمي جديد نقطة الثقل فيه قلب القوقاز هذه المرة وأن المواجهة على رقعة الشطرنج منفتحة على أكثر من احتمال وحملة لكنها تعرف أيضا ما يجري حلقة أولى ضمن مخطط رد أميركي ـ أوروبي ـ اسرائيلي على محاولات تقاسم النفوذ واستبعادهم عن المنطقة وأن الدب الروسي الذي يظهر وكأنه المستهدف الأول من كل ذلك سيطالبها بالاسراع في الكشف عن أوراقها وتحديد مواقفها واعلان خياراتها كلما اشتدت الازمة وتفاعلت وتشاعبت.. اسراع أردوغان الى موسكو وتيفليسي يهدف الى محاولة قراءة المواقف وتحليل التحولات والمسار الجديد للأمور قبل أن يصنف في خانة الوساطة والتوسط.

حرب القوقاز بقدر ما تضر وتهدد مسار العلاقات الأميركية ـ الروسية فهي تطال مباشرة علاقات تركيا بهاتين القوتين وحساباتها ومصالحها في أكثر من مكان وحكومة العدالة تعرف صعوبة المضي في سياسة الاعتدال والانفتاح على جميع الأطراف وانه حتى لو تمسكت هي بهذا الخيار فانها ستجد صعوبة بالغة في الدفاع عنه واقناع الاخرين به خصوصا اذا ما بادر البعض الى تذكيرها بتعهداتها واتفاقياتها الموقعة معهم. تركيا تعرف أخيرا أن الذين دفعوا بالرئيس الجورجي الى حوض السباحة سيطالبونها باسم الشراكة الاسهام في عملية انقاذه وحتى المطالبة بنشر الكثير من المسعفين والمراقبين حول الحوض بحجة حماية ارواح الحلفاء والاصدقاء لكنها تعرف دون شك أن الدب الروسي الذي أجبرت على معايشته لسنوات وتجنبته لسنوات اخرى بسبب غفوة الشتاء الطويلة التي امتدت حوالي 15 عاما قد استفاق وهو سيطالب الكثيرين بتقاسم مصاريف اشباعه من جوع مزمن واشراكه في الغنائم التي حرم منها وكان معظمها على حسابه وهي ستتعلم من دروس الحرب الجورجية حتى لا تقع في الفخ الذي نصبه لها البعض.

حكومة العدالة والتنمية ملزمة بتحديد استراتيجية جديدة في القوقاز والاستعداد لحرب باردة جديدة هناك وهي تدرك تماما مخاطر أي تغيير جذري في سياساتها ومواقفها فأكبر المخاطر هي كما يقول المثل التركي تبديل الفرس أثناء محاولته عبور النهر.

* كاتب واكاديمي تركي