تأملات في المسألة الجورجية!

TT

كان الوقت ظهر يوم الخميس السابع من أغسطس في مدينة بوسطون الأمريكية عندما قال أحد الزملاء المشاركين في مشروع علمي حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي إن حربا قد بدأت هذا الصباح عندما قامت قوات دولة جورجيا باقتحام إقليم أوستيا الجنوبية وان روسيا على وشك التدخل في المعركة. كانت المجموعة الجالسة حول المائدة من علماء السياسة، وكان من المعتاد وكل الجالسين أمامهم أجهزة الكومبيوتر الخاصة بهم ومتصلة بقوة بشبكة المعلومات الدولية ـ الإنترنت ـ أن يبحثوا فورا عن أي من المعلومات المطلوبة للبحث من خلال كل الشبكات المعروفة وأهمها «ياهو» و«جوجل»؛ وكلاهما ـ كما هو معلوم ـ يقدم بالإضافة إلى المعلومات خدمة إخبارية فائقة السرعة، وما ان بدأت الحرب حتى ظهرت أخبارها أولا بأول في شكل ومضات أن أزمة دولية قد دخلت فى مرحلتها العسكرية. وهكذا بينما كنا نبحث في «الصراع العربى ـ الإسرائيلي» كان في العالم صراع آخر تفجر هو الآخر لأن القائمين عليه لم ينجحوا في حله، وتصوروا أن القوة العسكرية يمكنها أن تكون مثل مشرط الجراح الذي يحل المسائل من جذورها.

جاء الخبر كما جاءت أخبار أخرى، ولم يهتم أحد كثيرا لا بعدد القتلى أو الجرحى، أو حتى باحتمالات التدخل الروسي الذي لم يمض وقت طويل حتى جرى. وربما لو كان الخبر خاصا بالدورة الأولمبية التي كانت على وشك الانطلاق في بكين؛ أو خبرا يخص سباق الرئاسة الأمريكي بين أوباما وماكين للقي اهتماما أكبر. ولكن بالنسبة لي بدا هذا التطور مهما، ليس فقط من الناحية المهنية لمتخصص في الصراعات الدولية، أو بسبب المعرفة المباشرة بفظائع الحروب التي شاهدتها في حرب أكتوبر 1973؛ ولكن لأن الأحداث نفسها بدأت وكأنها تثير الكثير من التأملات بالنسبة للمنطقة العربية.

كان التأمل الأول الذي مر بخاطري هو أن العالم العربى محظوظ للغاية لأنه لا يقع في الجوار المباشر لدولة عظمى وقادرة مثل روسيا أو الصين أو الولايات المتحدة الأمريكية. وفي العادة فإن العرب يندبون حظهم دائما، وما جاءهم من الاستعمار ما لبث أن ذهب، وما ابتلاهم الله في النهاية بمصيبة فلن تزد في الجوار عن دولة صغيرة مساحتها لا تزيد على 20 ألف كيلومتر مربع وبها سبعة ملايين من السكان 20% منهم من العرب. وبالتأكيد كان الأمر سيختلف كثيرا لو انتقلت الدول العربية بكاملها وكانت في مكان آخر مثل منطقة القوقاز، حيث توجد جورجيا، والتي ظنت، وكثير من الظن إثم، أنها تستطيع إخضاع «أوستيا الجنوبية» التي انفصلت عمليا هى وإقليم «ابخازيا» عن الوطن الأم «جورجيا». وبالنسبة للرئيس ميخائيل سكاشافيللى فإنه كان يقوم بمهمة لوضع سيادة جورجيا على واحد من الأقاليم الانفصالية؛ ولكنه عندما فعل ذلك داس على أصابع العملاق الروسى الذى لم يكن نائما إطلاقا في هذه اللحظة. وذات مرة قال لي سفير كندي في القاهرة إن حالة كندا تماثل حال فأر صغير ينام بجوار فيل هائل ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ ومن ثم فإن عليه أن يكون يقظا دائما عندما يتقلب الفيل في منامه، ويكون حريصا على حالته النفسية والعصبية لأن خطأ صغيرا في الحساب يمكنه أن يؤدي إلى فقدان الحياة أو الاستقلال لا فرق!

ولكن جورجيا فعلتها لأن كل ما تصورته صحيحا من الناحية القانونية والشرعية كان كافيا لأن تخوض عملية عسكرية ضد إقليم انفصالي. وكان ذلك كافيا لكي يثير تأملا آخر حيث تذخر الكتابات العربية بالحديث عن الشرعية والقانون الدولي، وفي أحيان كثيرة يجري الكثير عن العدل والعدالة. وفي العادة كان يلح في ذهني ذلك السؤال الصعب متى كان في تاريخ العالم مثل هذا العدل والعدالة عندما جرت الفتوحات والغزوات وجرى تغيير ثقافات وديانات الشعوب والأمم والجماعات؛ وهل حق جورجيا فى نشر سيادتها على أراضيها أكثر أو أقل عدالة من حق سكان أوستيا الجنوبية وأبخازيا فى تقرير المصير. وفى أحيان أخرى كان يلح على ذهني كيف يمكن الحديث عن «الشرعية الدولية» بينما لا يزال العالم بدون حكومة، ولا قوة لتطبيق القانون؛ وكل ما نعرفه أن هناك محاولة عالمية للتوصل إلى هذه الحالة، ولكننا لم نصل إلى هذه الحالة بعد، وحتى يحدث ذلك فإن كل القضايا الدولية الداخلية والخارجية خاضعة لتوازنات القوى وحسابات المصالح.

مثل ذلك لم تعرفه جورجيا، وهذا تأمل ثالث، ولم نعرفه في العالم العربي. وفي يوم من الأيام قال لي باحث غربي إن العرب يختلفون عن كل الدنيا في أن القاعدة الذهبية للعلاقات الدولية هي أن تضع أهدافا محدودة للسياسة وتضع خلفها قدرات غير محدودة من اجل تنفيذها؛ ولكن العرب على العكس يضعون أهدافا غير محدودة ويحشدون خلفها قدرات محدودة للغاية. ولكن التاريخ أثبت أن حكومة تبليسى ـ عاصمة جورجيا ـ لديها نفس القدرات من الحماقة عندما تدخلت عسكريا في أوستيا الجنوبية؛ وتصور رئيس جمهوريتها أنه يمكنه بينما العالم منشغل بالانتخابات الأمريكية وزعماء العالم متجمعون في بكين لافتتاح الدورة الأولمبية. ولكن الأفيال الكبرى لا تنام أبدا لأن لها مصالح كبرى أيضا، وبينما كان بوتين لا يزال في بكين اتخذ قرار التدخل العسكري وبعد أيام قليلة كانت جورجيا راكعة على أقدامها تطلب وقف إطلاق النار ومعه الغفران.

وجاء التأمل الرابع عند البحث عن الأسباب التي دفعت جورجيا لارتكاب هذه الحماقة؛ والواضح أن جورجيا تصورت لنفسها قيمة أكثر من حقيقتها. فهي من الدول المحاربة في العراق مع الولايات المتحدة، وهي أيضا مشاركة لحلف الأطلنطي في كثير من نشاطاته، وهي ثالثا واحدة من تلك الدول التي قامت بثورتها الديمقراطية ضد ديكتاتور من بقايا الدولة السوفيتية ـ إدوارد سيفرنادزة ـ وانتخبت الرئيس الحال سكاشافيللى في انتخابات حرة ونزيهة؛ وكل ذلك كان فى نظر تبليسى أرصده تجعل العالم الغربي يقف إلى جانب جورجيا في معركتها ويشكل رادعا للدولة الروسية. وبالإضافة إلى ذلك كله فإن جورجيا ممر هام من ممرات النفط، وفي وقت أزمة عالمية بترولية فإن أحدا لن يخاطر بأزمة إضافية ترفع أسعار البترول أكثر مما هي مرتفعة. كل ذلك كان يذكرني دائما بما يقوله العرب حول الأهمية المبالغ فيها لمواقعهم الاستراتيجية، وممراتهم البحرية، ونفطهم الهام جدا؛ ولكن ما أن يبدأ الصراع حتى نجد أن العالم يحسب وفق أوزان ومقاييس أخرى. وفي حالتنا هذه لم تكن جورجيا أكثر من دولة صغيرة متخلفة من بقايا الاتحاد السوفيتي السابق أقلقت مزاج العالم في لحظة كان يستعد فيها لمراقبة الإبداع الألمبي الذي يتوج الصين في عالم القوى الكبرى. وساعة الغزو الروسى لجورجيا لم يجد الرئيس الأمريكي، ولا الرؤساء الآخرون سببا لتغيير برامجهم في بكين، خاصة وأنهم قد اصطحبوا زوجاتهم وأولادهم للمشاركة في حدث تاريخي أكثر أهمية من أوستيا الجنوبية التي ربما لا يعرف أحد في العالم عنها الشيء الكثير.

التأمل الخامس ـ والأخير ـ يخص روسيا؛ أعلم أن كثيرين في العالم العربى ينتظرون عودة الأيام السعيدة للحرب الباردة مرة أخرى، وقد راهنوا على الصين مرة ولكنها أصبحت رأسمالية، وعلى الاتحاد الأوروبي مرة أخرى ولكنه يلتصق بأمريكا أكثر من أي وقت مضى. ولكن روسيا بقيت دائما الأمل لأنها نووية، ولأنها كبيرة، ولأنها أهينت وتمزقت كما أهين العرب وتمزقوا. وبعد هزيمة جورجيا من روسيا سوف تكون مناسبة للحديث عن عودة موسكو مرة أخرى إلى الساحة الدولية، ولن يكون مهما أنها قامت بغزو دولة عضو في الأمم المتحدة، فقبل كل شيء فإن جورجيا لا تزيد عن كونها دولة عميلة للغرب وتتشدق بديمقراطيتها بإفراط كثير. ولكن ذلك سوف يكون حماقة من نوع آخر، لأن المصالح والعلاقات الآن بين روسيا والغرب أكبر بكثير من جورجيا ومن العرب أيضا!