الأُرْدنُّ والعراق.. الوشائج!

TT

فتحت زيارة الملك عبد الله بن الحسين أفقاً مع العراق، كأول زائر يصله بهذه المنزلة. صحيح، سبقه إلى بغداد الرئيس الإيراني (مارس 2008) إلا أن نجاداً لم يكن الرجل الأول بإيران، أما الأمريكي فيزور جيشه لا البلاد. عاش العراق (1990- 2003) بلا زوار كبار، خلا الوفود من مستوى رئيس حزب قومي بروسيا، أو أمير جزيرة يصعب إيجادها على الخارطة.

تأتي، من هذا الباب، أهمية زيارة عاهل الأُرْدنِّ، بعد برود طال أمده على مستوى القِمم منذ 14 تموز 1958. أما الزيارات الملكية في الثمانينيات لبغداد فكان يزامنها استقبال المعارضة العراقية بعمَّان أيضاً. يتذكر السياسي الأقدم، في معارضة دولة البعث، سعد صالح جبر، نجل رئيس الوزراء الأسبق، حادثةً، كثيراً ما أوردها شاهداً في ندوات المعارضة. قال: كنا والسيد مهدي الحكيم (أغتيل 1988) بزيارة للبلاط الأُرْدنِّي، ولما ودعنا الملك الحسين رفع كفيَّه متذرعاً إلى السماء بخلاص العراق مما هو فيه، فما كان من صاحب العِمامة الحكيم إلا القول مازحاً: «يا جلالة الملك هذه مهمتي...»!

يعبر هذا اللقاء وسواه عن أهمية العراق للاُرْدنِّ، وأن الأخيرة قلقة والتنور يفور في أرض جارتها الجنب، فظلت تستقبل العراقيين على مختلف اتجاهاتهم، يوم لم يبق سواها معبراً، بعد غلق المعابر كافة، بما فيها سوريا، التي يقودها الحزب ذو العقيدة نفسها. كانت بداية الأُرْدنِّ والعراق واحدة، وأقصد الدولة الحديثة. ولستُ معنياً بمحاولات اعتبار البلدان القائمة من صناعة استعمار. ذلك عندما يتحدث الطامحون بالمساحات الكبرى، على مستوى القومية أو الدين، عن كل شيء سوى حقوق الجغرافيا والتاريخ.

إسلامياً ذُكرت الأُرْدنُّ في تاريخ فتوح الشام كجند من أجناده الأربعة، وأول أمير عليها كان شرحبيل بن حسنة (ت 18هـ)، ولها في كتب البلدانيين حضور، ككورة عُرفت باسم نهر، ولم تسم باسمه سواها. كَتب البشاري (ت 380 هـ): «ألا تعلم أن نهر الأُرْدنِّ بفلسطين يسمى أيضاً نهر الأُرْدنُّ، ولم يقل أحد أن أغوار فلسطين من الأُرْدنِّ» (أحسن التقاسيم). وقبلها تُذكر أسوة بالبلاد التي ذُكرت في التاريخ المعتمد على حكايات الأولين: أن إبراهيم الخليل، وهو يهاجر من أور السومريين، أو كُوثى البابليين، أَنزل ابن أخيه الأُرْدُنَّ (تاريخ الأمم والملوك). وقادت مخيلة الرواة إلى رواية غور المياه كافة، في آخر الزمان، إلا الأُرْدُنَّ والنيلَ...(ابن الفقيه، مختصر كتاب البلدان).

اعترضت، كصاحب عازة ملحة، طريق الملك عبد الله مرةً، يوم قادت المصادفة أن أكون أمامه وجهاً لوجه، وكانت المناسبة حضور حفل لتوزيع الجوائز على أصحاب المهارات الأوائل من الصحفيين، ولستُ من المحتفى بهم، إنما حضرتُ ضمن المخصص لجريدة «الشرق الأوسط»، بدعوة من رئاسة تحريرها، من دون علمٍ مَنْ سيكون الراعي! وما أن رأيت الملك يلقي خطابه، حتى جالت في رأسي الفكرة لعرض عازتي. عندها تقمصت دور المنتحلين للمناصب، في وقت لا أثر للدولة العراقية، إلا مصفحة بول بريمر وضخامة التفجيرات، وقطف الرؤوس جارٍ في كل ناحية، لحظتها عينت نفسي بمنصب لسان الدولة، أسوةً بالذي عين نفسه محافظاً لبغداد مثلا!

نهض الملك مغادراً فاندفعت، وسط دهشة الخواص من المودعين، لأقف أمامه. بَشَّ بوجهي، وأظنها إيماءة بفسح المجال لعابر سبيل، تقدمت من دون ذكر اسمي أو صفتي، مسرعاً بالكلام: «أنا عراقي! شعبنا يذبح من الوريد إلى الوريد، وجلالتك تستطيع عمل شيء! بدأنا بداية واحدة 1921، وكنا اتحاداً. والعابرون الحدود، كما ترى، يقطعون رقاب الباكين على الحسين جدك، ولم يسلم أهل مذهب ودين...»! كُدت بهذه الصلة تذكيره بتحية الجواهري الكبير لأبيه: «يا ابن الهواشم»، إثر تسلم الأخير وساماً من الدرجة الأولى (1992)، في وقت كان الشاعر بعيداً عن دياره، ومفتتحاً لأول مؤتمر للمعارضة العراقية (بيروت 1991)، ومنها: «هذه قُبور بني أبيك ودورهم.. يملأنَّ عُرضاً في العراق وطولا». وكان الجواهري يكررها العراق وأخرى الحجاز.

ومع تضييق الحرس عليَّ من دون منع، ولهم الحق، لكن ضخامة الفواجع حيث الناس تُذبح كالخراف مع قلة حيلة، جعلتني منكسراً إلى هذا الحد. سمعتُ الملك، والجمع يسمعه، وهو يضع يده على صدره: «والله أنا معكم، أنا معكم ...»! بعدها تسللت بعوث الزرقاوي معكوسة إلى عَمَّان وتفجعها بالعرسان (نوفمبر 2005)، فأيقنتُ ليست البداية إنما المحنة واحدة أيضاً.

بهذه الزيارة، تكون المخاوف المتبادلة في طريقها إلى التلاشي، لكن يبقى على ساسة العراق تحمل المسؤولية، فرواحل الملوك والرؤساء لا تُشد إليهم إلا والبلاد واحدة متماسكة، وبغداد صرتها الرَؤُوم لا السَؤوم!

[email protected]