التحدي الروسي: أميركا تحتاج إلى إطار أمني أكثر مرونة

TT

لقد دار الكثير من الجدل حول ما إذا كانت الأزمة في جورجيا تعكس ما كان يجري من أوضاع إبان الحرب الباردة. لكن ذلك يبدو مفهوما ضيقا للغاية. فعلينا أن نضع في أذهاننا أنه عندما انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991، لم يكن ذلك مجرد نهاية للحرب الباردة. بل الأكثر من ذلك أنه كان نهاية إمبراطورية كبرى لها تأثير كبير على العالم كله.

ولم يحدث مثل هذا الانهيار لمثل هذه الإمبراطورية الكبرى إلا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى عندما رأينا زوال كل من الإمبراطوريتين العثمانية والمجرية. وقد أدلى انهيارهما إلى خلق فجوات سياسية وجغرافية وعمل ذلك الانهيار على إحداث موجات عارمة زلزلت أوروبا والشرق الأوسط، وأدت في نهاية الأمر إلى أكبر أزمة عاشتها البشرية وهي الحرب العالمية الثانية.

وقد مضى 17 عاما على انهيار الاتحاد السوفياتي. وبالقياس إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فإننا حاليا نعتبر فيما كان يشبه عام 1935. ففي عالم 1935، لم يكن أحد يستطيع التنبؤ بالأحداث الكبرى التي كانت سوف تقع ـ ليس فقط الحرب العالمية الثانية وإنما الهولوكوست واختراع الأسلحة النووية وازدياد عدد الدول عن الضعف والصراع الطويل مع الاتحاد السوفياتي.

وأنا لا أقول إننا نمر بمثل تلك الأوقات الكارثية والدرامية التي كانت سائدة في وقت الحروب العالمية. لكنني أقول إنه من الواضح أن العاصفة التي خلفها الانهيار السوفياتي لم تهدأ بعد، وأن علينا أن نتوقع سنوات من عدم الاستقرار العالمي.

ما معنى ذلك؟

أولا: مع التحولات الهائلة التي يشهدها العالم مثلما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، فإن هناك احتمالا كبيرا لحدوث مفاجآت هائلة ـ وهذا إنذار تحذير لرجال المخابرات في أمتنا على وجه الخصوص. فأزمات البلقان التي حدثت في تسعينات القرن الماضي كانت نذيرا بحدوث المزيد من الأزمات. وعندما تنهار الإمبراطوريات، فإنه يجب أن يكون هناك شيء يملأ الفراغ الذي يخلفه ذلك الانهيار، وغالبا ما يمثل ذلك الشيء تحديا جديدا لما كان يسبق من أوضاع وأحوال، أو قد يكون لاعبا جديدا غير متوقع بأي حال.

وأوضح أمثلة في عالمنا اليوم تتمثل في جورجيا وغيرها من الدول المستقلة حديثا عن الاتحاد السوفياتي.

ثانيا: أنه في العالم المعاصر الذي يتسم بالكثير من التخبط، لا تتوافق بعض الدول مع عاداتها القديمة. فإذا ما فكرنا في الحالة الروسية، فإننا نجد أنه في تاريخ روسيا الحديث قد قام غورباتشوف من خلال جراحاته التي لم تكتمل في قلب اقتصاد الاتحاد السوفياتي بتدمير ذلك الاقتصاد، وكذلك قام بوريس يلتسين من خلال الخصخصة بتدمير الشيوعية التي كانت سائدة في مرحلة العهد السوفياتي. وكذلك فإن بوتين يحاول إعادة روسيا إلى المسرح العالمي. ومع محاولته تلك، علينا أن نتذكر أن الشمولية في روسيا ترجع إلى ما قبل العهد البلشفي، حيث كان القياصرة يتوقون دائما إلى تكوين الإمبراطوريات. وهذا هو المعين الذي لا ينضب للسياسة الروسية في هذا البلد الجديد الذي تميزه 70 عاما من التاريخ السوفياتي.

ومن المستحيل أن نعرف إلى أي مدى ترغب روسيا أو تستطيع أن تظل هكذا في عالم العولمة. ولكن من المؤكد أننا سوف نواجه تعقيدات متزايدة في التعامل مع روسيا وجيرانها.

ثالثا: في عالم لا يمكن التنبؤ فيه بشيء تقريبا، فإن الولايات المتحدة سوف تعمل على التحلي بمرونة غير مسبوقة للمحافظة على تفوقها الذي اعتادت عليه منذ الحرب الباردة وأثناء فترة «القوة العظمى الوحيدة» والتي تلت الانهيار السوفياتي. ولكن مثلما قال وزير الدفاع روبرت غيتس وغيره فإن مثل هذه المرونة ليست هي كل ما نطمح إليه.

ويعكس ذلك بصورة جزئية حقيقة أن مؤسسات الأمن القومي وهياكل اتخاذ القرار قد تم تأسيسها قبل أكثر من 60 عاما، وفي ذلك الوقت كانت تلك المؤسسات تواجه خصما وحيدا وأقل مرونة. وقد سمع هذا النظام لنا بخلق قدرات كبيرة في مجالات مختلفة من السياسة الخارجية والعسكرية والدبلوماسية والمخابرات لكننا لا نعمل على التكامل فيما بين هذه المجالات ولدينا مشكلات في التعامل مع أكثر من مشكلة أو اثنتين في وقت واحد.

وقد مر وقت أطول مما يجب على إعادة فحص قانون الأمن القومي الذي يرجع إلى عام 1947 والذي تأسست عليه ممارساتنا الحالية.

رابعا: نحتاج إلى تخصيص وقت أطول في التفكير والتخطيط بعيد المدى في المجالات الأخرى التي تخلفنا فيها والمجالات التي تلعب فيها المخابرات دورا حيويا. ولا شك أن توجهنا نحو معالجة الأزمات بعد وقوعها لا يتفق مع ما تقوم به الدول الكبرى التي تحاول أيضا تشكيل العالم الجديد. والأميركيون يميلون إلى التفكير في فترة رئاسية تمتد لأربع سنوات أو ميزانية تمتد لخمس سنوات ـ وهو ما يعتبر مدى قصيرا بالمقارنة بدول مثل الصين وروسيا على وجه الخصوص.

وعلى قادتنا، لاسيما المرشحين للرئاسة وقادة المخابرات أن يتأملوا بصورة أبعد مدى في التاريخ. فأولئك الذين يتمتعون بنظرة أبعد مدى سوف يتميزون في تصور الشكل الجديد لعالم ما بعد القطب الأوحد. ولا شك أن المقارعة اليومية بين المرشحين للرئاسة لا تساعد على التفكير بعيد المدى، ولكن بمجرد انتهاء هذه المقارعة فإن على رجال الولايات المتحدة أن يتذكروا أن هذه الخلافات بشأن الأمن القومي يجب أن تنتهي أو على الأقل أن تختفي تحت السطح.

* الكاتب زميل أول لكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»