دنيا محمد شكري ملحمة البؤس المنثور (2)

TT

جاء محمد شكري الى طنجة هاربا من مجاعة الريف. كان طفلا في السادسة أو السابعة، هرب مع الهاربين الذين كانوا يموتون عياء على الطريق. وكان الجميع يظنون ان طنجة هي الفردوس، لكنها لم تكن الفردوس. غير «انها لم تكن الجحيم ايضا». كان فيها «سباسي»، أي اعقاب سجائر وبقايا تبغ محترق، وكان فيها بقايا طعام، وكان فيها ميناء يعّج آنذاك بالجنود الدوليين والمهربين ورجال المافيا. وكان محمد شكري يعيش من مرافقة الجنود الاميركيين الى «المواخير الأوروبية لأن المواخير المغربية لم تكن خاضعة للرقابة».

من هذا القاع البشري، تحت حزام الفقر، تحت حزام الكرامة الانسانية، صعد محمد شكري الدرب الطويل، لكي يصبح اشهر كتَّاب المغرب وعلم طنجة الممزق. ذهبت الى مكتبة أبحث عن كتابه «السوق الداخلي» فاعتذر البائع. جميع كتب محمد شكري بالعربية قد نفدت. هناك بعض كتبه المترجمة الى الاسبانية. النسخ الفرنسية ايضا نفدت. لقد ترجم بائس طنجة، أو اشهر بؤسائها، أو اشهر بؤساء القرن الماضي، الى عشرين لغة على الأقل، هو الذي لم يدخل المدرسة قبل ان يبلغ العشرين، هو الذي عندما وصل الى طنجة لم يكن يعرف العربية بعد، لذلك اضطهده أولاد الأزقة وأشقياء المقابر والزنقات وعالم «القصبة» الذي لن يغادره محمد شكري الى مكان، الا الى الرقاد الأخير في المقابر التي كان ينام فيها يافعا مع رفاق «السباسي» وبائعي الدخان المهرَّب في الميناء.

لا تزال طنجة القديمة، الملتفة على نفسها مثل طفل خائف، المحتمية بحجارتها وبواباتها السبع، لا تزال تطل على الميناء القديم الواقع بين مياهي الاطلسي الداكن والمتوسط الازرق مثل القرنفل. لكنه لم يعد عالم محمد شكري. انه ينقل مكانه الى الجانب الآخر ليصبح اكبر موانئ افريقيا. لقد ذهب بؤس كثير عن ظاهر المدينة منذ ان غاب محمد شكري تحت وطأة السعال والكبد المقروحة، التي شكا منها الاخطل الصغير نادما: ولي كبد مقروحة أنى لي كبد غير ذات قروح. أو هذا هو المعنى الباقي في الذاكرة من صاحب «المسلول».

وربما غاب ايضا ذلك الشكل المرعب للفقر والنظر الى السباسي المرمية على انها لقيا سعيدة، لكن كيف يمكن ان تمحى من ذاكرة طنجة محفورات محمد شكري الذي حمل عوزه على كتفيه وراح ينادي عليه في سوق الأدب العالمي، رافضا ان ينسى فظاظته، رافضا ان ينسى فظاظة والده، رافضا ان ينسى صورته وهو يضرب امه بالحزام العسكري العريض. لقد حول شكري فقره الى فضيحة مدوية، الى حملة استنكار، الى ملحمة نثرية متتالية.