طريق وسط في أذربيجان

TT

قد لا تكون هناك دولة بالعالم تتابع أنباء الصراع الروسي ـ الجورجي عن كثب وبحرص مثلما الحال مع أذربيجان، وهي دولة صغيرة غنية بموارد الطاقة تقع إلى الجنوب الشرقي من منطقة الصراع.

ومثل جورجيا، تبدي أذربيجان ميلاً تجاه الغرب. وصادراتها من النفط تمر من خلال خط أنابيب بالأراضي الجورجية. كما ترغب أذربيجان في معرفة إلى أي مدى باستطاعة روسيا الإبقاء على الدول التي كانت تتبعها فيما مضى داخل نطاق نفوذها.

جدير بالذكر أن أذربيجان كانت واحدة من أوائل الجمهوريات السوفياتية التي حازت على استقلالها. وتتميز هذه الدولة المسلمة بتقاليد فريدة من نوعها يغلب عليها التسامح الديني، علاوة على تمتعها بعلاقات ودية مع إسرائيل. كما انضمت أذربيجان إلى الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد الإرهاب، وساهمت بجنود في قوات التحالف في العراق وأفغانستان.

إلا أنه رغم العلاقات الودية القائمة بين أذربيجان والغرب، فإن الأولى تدرك تماماً مكانها في العالم، حيث تقع أذربيجان بمنطقة تجعلها محصورة بين قوى عظمى وجماعات دينية وعرقية متنوعة داخل إقليم تشتعل فيه الصراعات بسرعة. لكن على خلاف جورجيا العنيدة، والتي من الواضح أنها أخطأت في حساباتها واعتمدت على أن الغرب سيهرع لنجدتها، لا تبدي أذربيجان ثقة مفرطة في هذا الجانب. في الواقع، يبدو الأذربيجانيون عاقدي العزم على اتباع نهج يقوم على الدبلوماسية والوسطية والحذر، الأمر الذي يتطلب جهداً بالغاً لتحقيقه.

على سبيل المثال، أكد الشيخ الله شكور باشازاده، رئيس المجلس المسلم للقوقاز، أنه: «في السياسة، ليس هناك أصدقاء. الأفراد لهم أصدقاء، أما الدول فلا، لأن مصالحها شديدة التعقيد». وفي السياق ذاته، تساءل صمد سيدوف، رئيس لجنة العلاقات الخارجية داخل البرلمان الأذربيجاني: «ماذا تعني كلمة صديق؟ نحن لا نرغب سوى في علاقات طبيعية».

من جانبي، أتيت إلى أذربيجان كضيف على الحكومة من أجل المشاركة في مؤتمر حول العلاقات الأميركية ـ الأذربيجانية. ولم يكن اسم الشيخ الله شكور مدونا في الأجندة الرسمية للمؤتمر، ومع ذلك فإن التوجهات البراغماتية التي يعبر عنها كثيراً ما تكرر ذكرها داخل المؤتمر وبمختلف الدوائر داخل العاصمة باكو من قبل ممثلي الحكومة ورجال الأعمال، وكذلك المواطنين العاديين.

ويتميز الأذربيجانيون بتوجهات واقعية أشبه بالنهج الذي صاغه كيسنجر في السياسة الخارجية الأميركية، ويكنون في الوقت ذاته مشاعر عداء قوية وواضحة تجاه أرمينيا، التي فقدت أذربيجان قرابة خمس أراضيها لحسابها في مطلع التسعينيات وماتزال متورطة معها في حالة حرب لم تنته بعد من الناحية الفنية. ورغم وجود سريان وقف لإطلاق النار بين الجانبين، فإنهما لم يقرّا هدنة بعد. فيما وراء ذلك، تتسم علاقات أذربيجان بالدول المجاورة بالتعقيد الشديد.

بصورة عامة، تمثل تركيا الحليف الطبيعي لأذربيجان، وهي دولة مسلمة علمانية أخرى وتشترك معها أذربيجان في تراث عرقي ولغوي مشترك. إلا أنه داخل باكو، ربما تتعرض التحركات التركية نحو بناء خليط أكثر قوة بين الإسلام والحكم لانتقادات، رغم أن بعض الأذربيجانيين يغبطون أنقرة على عضويتها بحلف الناتو ومحاولاتها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وبصورة عامة يمكن القول إنه بالنسبة للأذربيجانيين لا يمثل الدين بالضرورة عاملاً يضمن التعاون أو العداء. على سبيل المثال، ينظر الأذربيجانيون إلى جورجيا، التي ينتمي غالبية سكانها إلى المسيحية، كحليف ويتعاطفون معها في الصراع الدائر حالياً بينها وبين روسيا.

على الجانب الآخر، لايزال الأذربيجانيون يشعرون بعدم الثقة حيال إيران التي تنتمي مثلهم إلى المذهب الشيعي من الإسلام، رغم ما يربط بين البلدين من علاقات ودية على الصعيد الرسمي. وبالمثل، فإنه رغم أن النفوذ الروسي على الصعيدين اللغوي والثقافي لايزال قوياً، وتتمتع الدولتان بعلاقات طيبة، من الصعب العثور على أذربيجاني لا يشعر بريبة بالغة تجاه فلاديمير بوتين. جدير بالذكر أن إيران وروسيا دعمتا أرمينيا ـ الأولى ضمنياً والأخيرة عسكرياً ـ في صراعها مع أذربيجان.

وفي حديثي مع عدد من الأذربيجانيين المتعلمين، أعرب بعضهم عن آرائهم في سياسات بلادهم، فقال الصحافي أولغا بوخايزا، 27 عاماً، «إن الأذربيجانيين يحاولون خدمة جميع السادة، ويحاولون أن يكونوا مهذبين مع الجميع، بينما يحافظون في الوقت ذاته على استقلالهم».

أما سيد راشد نوفروزوف، 23 عاماً، فأكد أنه: «بالنسبة لنا، ليس هناك فعلياً أبيض وأسود، فلا يمكنك الثقة بأي شخص، ولا يمكنك الشك في الجميع».

ومن الواضح أن الأذربيجانيين يعون تماماً أن وضعهم بين قوى عظمى يمنحهم فرصة عظيمة، مثلاً، قال سيدوف إنه «ربما نتمكن من تقديم الحل لمسألة صدام الحضارات». لكن في الغالب، يترك هذا الوضع في نفوسهم شعورا بأنهم يفتقدون التحكم في مصيرهم. بل وأعرب علي شافيف، نائب وزير شؤون الأمن القومي، عن اعتقاده بأن الثروة الكبرى التي تتمتع بها بلاده، وهي احتياطيات النفط والغاز الطبيعي، تسهم في هذا الوضع المقلق للبلاد. وأوضح أنه: «من ناحية، الاهتمام بنفطنا يمنحنا شعورا أكبر بالأمان، ومن ناحية أخرى، يجعلنا أكثر عرضة للخطر».

بيد أن هناك أمراً واحداً يبدو مؤكداً، أنه في إطار تحركهم باتجاه الغرب، لن يقدم الأذربيجانيون على تجاهل أو تحدي روسيا مثلما فعلت جورجيا منذ أسبوعين تقريبا.

يوم الخميس، أعلن فيتالي بايلاربايوف، وكيل نائب رئيس «سوكار»، وهي شركة نفط أذربيجانية مملوكة للدولة، أمام عدد من ضيوفه الأميركيين أن شركته تدرس عرضاً روسياً لشراء جميع إنتاج الغاز الطبيعي للشركة لكل من الاستهلاك المحلي والتصدير لأوروبا. ومن الواضح أن مثل هذه الخطوة من شأنها منح موسكو المزيد من النفوذ السياسي داخل الدول الأوروبية الغربية المعتمدة على واردات الطاقة.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز»

ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»