إسرائيل غير ناضجة للحل

TT

لم تثر خطة الحل السياسي، التي نشرتها صحيفة «هآرتس»، التي قدمها ايهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، سوى ردود فعل قليلة في الرأي العام والمجتمع السياسي في إسرائيل. المستوطنون وأقطاب اليمين، الذين يعلو صراخهم في مثل هذه الحالات، آثروا بالمجمل تجاهل ما نشر ولم يكترثوا بما جاء فيه، وتعاملوا معها كفقاعة إعلامية لرئيس وزراء إسرائيلي أشرف على نهاية ولايته، بعد تورطه في عدة قضايا فساد مالي. لو أحست الأوساط السياسية في إسرائيل أن القضية جدية، وأن هناك احتمالا فعليا للتوصل إلى اتفاق من هذا النوع، لقامت الدنيا ولم تقعد ولثارت زوبعة سياسية كبيرة ولتحركت موجة احتجاج عاصفة.

ليست هذه هي المرة الأولى التي تطرح فيها مسودة خطة للحل السياسي، فقد سبقتها مسودات كثيرة أثارت ضجة، سرعان ما خفتت وتلاشت كأنها لم تكن. لا يمكن اعتبار خطة أولمرت ثمرة للمفاوضات، فهي أساساً تلخيص للموقف الإسرائيلي كما يراه الثلاثي أولمرت وليفني وباراك، وهي لا تختلف جوهرياً عما طرح في مفاوضات كامب ديفيد وطابا، ورفضه الرئيس الراحل ياسر عرفات، ومن المستبعد أن تقبل السلطة الفلسطينية ما رفضه أبو عمار. مع ذلك، فإن الإطار العام لمقترحات أولمرت، يشير إلى الحد الأقصى للموقف الذي ينتجه المجتمع السياسي الإسرائيلي، ومن غير المتوقع أن يقوم أولمرت أو من يخلفه بإجراء تعديلات جوهرية في هذه الخطة لإغراء القيادة الفلسطينية بقبولها.

تعتمد المقترحات الإسرائيلية، كما نشرتها صحيفة «هآرتس» وغيرها، على ضم 7% من أراضي الضفة الغربية مقابل أراض بديلة بمساحة 5.5% محاذية لقطاع غزة، ومعبر آمن يربط غزة بالضفة ويبقى تحت السيادة الإسرائيلية، إلا أن إسرائيل تعتبره منطقة نوعية، وتدرجه في إطار الأراضي البديلة لتلك التي تنوي ضمها. الخطة الإسرائيلية تؤجل بحث قضية القدس والأغوار، إلا أنها واضحة جداً في تعاملها مع قضية اللاجئين، فهي تتضمن رفضاً قاطعاً لحق العودة، وتقبل بعودة عشرين ألف لاجئ خلال عشر سنوات في إطار ما يسمى بالحالات الإنسانية، وليس في إطار لم الشمل كما اعتقد الكثيرون. يهدف التأكيد الإسرائيلي على ما يسمى بالحالات الإنسانية، لتثبيت رفض حق العودة، فمن سيعود ليس له حق بالمفهوم الإسرائيلي، بل سيكون ذلك في إطار إنسانية إسرائيل وكرماً منها. هذا الاقتراح الإسرائيلي هو تكرار لما جاء في قانون «منع لم الشمل»، الذي يحرم الأزواج الفلسطينيين من طرفي الخط الأخضر من العيش سوياً في قرى ومدن الجليل والمثلث والنقب، إلا في الحالات الإنسانية الصعبة، مع التأكيد على أن الزواج والأولاد لا تعتبر بحد ذاتها حالة إنسانية. باختصار إسرائيل تريد إخضاع قضية اللاجئين لقوانينها الداخلية، وبالأخص قوانينها العنصرية.

الاقتراح الإسرائيلي، الجديد القديم، هو بحد ذاته دليل إضافي على أن الدولة العبرية ليست ناضجة للتوصل إلى تسوية عادلة ومتوازنة. مسألة عدم النضج لا تتعلق بالحكومة الإسرائيلية الحالية فحسب بل هي حالة المجتمع السياسي الإسرائيلي بأسره وبكل أطيافه وتفرعاته. ليس اقل أهمية من ذلك هو موقف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي تضغط باتجاه تأجيل قرار السلم والحرب ريثما يتوفر لديها جواب لسلاح الفقراء، ألا وهو الصواريخ بكافة أنواعها المتوفرة والتي قد تكون متوفرة لدى الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين. وإذ يدأب الجيش والصناعة العسكرية في إسرائيل على تطوير منظومة «القبة الحديدية»، وإذ تخصص لهذا المشروع مبالغ طائلة، فإن كل التوقعات تشير إلى أن الأمر سيستغرق حوالي خمس سنوات. على هذا الأساس يجب فهم «زلة لسان» ايهود باراك المقصودة، حين صرح عشية لقاء أنابوليس، أنه يجب أن لا يكون أي انسحاب من الضفة قبل مضي خمس سنوات على الأقل.

المؤسسة الاقتصادية الاسرائيلية لم تعد من جهتها متلهفة للتوصل إلى تسوية تفتح أمامها الأسواق العربية وتضخها بالرساميل العربية، وهو حلم راودها عشية اتفاق أوسلو، حيث كان لمجموعة أرباب الصناعة ورجال الأعمال، الذين التفوا حينها حول شمعون بيريس، دور هام في تحفيزه للتوصل إلى اتفاق. منذ أوسلو حتى يومنا هذا حدثت تغييرات بنيوية في الاقتصاد الإسرائيلي. فقد استفاد هذا الاقتصاد من اتفاق أوسلو وشهد طفرات كبيرة راكباً القطار المتجه نحو أوروبا، في حين تراجع الاقتصاد الفلسطيني بعد أوسلو، وركب قطاراً يتجه نحو حالة الفقر الأفريقية. التغيير الأهم في الاقتصاد الإسرائيلي هو تحوله السريع إلى «الهاي تك»، المرتبط بالأسواق الأمريكية والأوروبية، في حين تراجعت الصناعات التقليدية التي دفعت باتجاه الأسواق العربية. هذا يعني أن المؤسسة الاقتصادية تكتفي بحالة استقرار تضمن التطور، وهي لم تعد بحاجة إلى تسوية تضمن لها انفتاح السوق العربية، كما كان في الماضي حين هيمنت على الاقتصاد الإسرائيلي الصناعات التقليدية. من المهم أن نشير هنا، إلى أنه وبرغم، وربما بسبب، النمو الكبير في الاقتصاد، إلا أن الاعتماد على الاستثمارات والأسواق الخارجية أصبح أكثر بكثير من الماضي، مما يعني أن إسرائيل حساسة جداً اليوم لأي ضغط اقتصادي من الخارج.

يحمل البعض مواقف أولمرت، ومواقف من سيليه أكثر مما تحتمل. الأرجح أن يستمر خليفة أولمرت في سياسته، لكن ذلك لن يغير المعطيات الأساسية وهي أن المجتمع السياسي غير ناضج للتسوية، والمؤسسة العسكرية تصر على التأجيل، والمؤسسة الاقتصادية لا تضغط كما في السابق. في هذه الحال فإن الاستراتيجية الإسرائيلية هي عملياً، إدارة الصراع وليس حله. حتى الحديث عن الحل الدائم، هو في إطار إدارة الصراع، الذي تستعمل فيه إسرائيل كل الأدوات المتاحة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً. المفاوضات ليست بمنأى عن مفهوم إدارة الصراع وهي جزء لا يتجزأ منه، وحتى التسريب عن خطة إسرائيلية «جديدة» هو لكسب النقاط في نفس الإطار.

هناك من سمى خطة أولمرت بأنها «اتفاق رف»، وهي فعلا كذلك، وهدفها الحقيقي هو استبدال قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بقضية فلسطين، وفي هذا مكسب كبير لإسرائيل. أما التطبيق فقد رهنته إسرائيل بجاهزية الطرف الفلسطيني ودحر حماس من غزة، وفي هذا محاولة خبيثة لتصدير عدم النضوج الإسرائيلي نحو الفلسطينيين.

لقد آن الأوان لتجري القيادة الفلسطينية حساب الربح والخسارة من المفاوضات، التي غدت غطاء للممارسات العدوانية والاستيطانية. لم تعد المفاوضات عقيمة فحسب، بل هي خطيرة، تزيد من قوة ومكانة إسرائيل وتضعف الفلسطينيين على كافة الأصعدة. أضعف الإيمان في هذه الحالة هو أن تخلق القيادة الفلسطينية أزمة سياسية وتعلن عن وقف المفاوضات وتشترط استمرارها بوقف كامل للاستيطان بما فيه في القدس، ووقف كامل للأعمال العدوانية الإسرائيلية، وامتثال إسرائيل لقرارات المحكمة الدولية بشأن الجدار، وتطبيق إسرائيل لالتزاماتها السابقة بشأن حرية الحركة في الضفة ووقف الحصار عن غزة. المفاوضات الحالية هي صناعة أوهام يجب فضحها والتخلي عنها وكونها تجري بلا شروط يجعلها مدخلا لتملي إسرائيل شروطها الفعلية على الأرض، وتستمر في طرح كلامها الوهمي في مباحثات الصباح والمساء.

* رئيس كتلة التجمع الوطني الديمقراطي في الكنيست الإسرائيلي