حدّثني الشيخ السلفي قال...

TT

«المشهد السني اللبناني مشتت ومتشظ، والسلفيون جزء من هذا الكل المتداعي»، قال الشيخ السلفي الطرابلسي وهو يهزّ رأسه أسفاً وحسرة. فالسلفيون باتوا مجموعات صغيرة، لكل منها مصالحها، ومصدر تمويلها وحساباتها الضيقة، وتعادي بعضها بعضا. وحين حاولت أن أفهم من هذا الشيخ المطلع ـ الذي عاصر التيارات الإسلامية في طرابلس ويعرف خباياها ـ سبب اندفاع بعض السلفيين، الآن تحديداً، لعقد اتفاق مع عدوهم اللدود حزب الله، لم يخف أن الحوار حين فتح بين الطرفين منذ شهور فاجأ الجميع، لكنه في سياق تطورات الأمور بات مفهوماً. وشرح لي أن هناك اربعة أمور أساسية يجب ان تأخذ جدياً بعين الاعتبار:

أولا: الساحة السلفية لم تعد تقبل أن تبقى «حصان طروادة»، والسلفيون يشتمّون بقوة اليوم رائحة تسوية ما في لبنان تتم على حسابهم، سيتحولون بفعلها إلى كبش محرقة، لذلك أرادوا استباق الصفقة.

ثانياً: البعد الإعلامي مأخوذ بعين الاعتبار، وكان لا بد من خطوة جريئة لإحداث الصدمة وقطف ثمارها.

ثالثاً: انفجار طرابلس سرّع وشجّع المقدمين على الاتفاق، لأن أصابع الاتهام وجهت مباشرة إلى الإسلاميين، مما عزز مخاوفهم، وأكّد حدسهم.

رابعاً: هناك لجنة للمساعي الحميدة تشكلت من شخصيات محايدة، تقوم بزيارات مكوكية لمختلف القيادات الإسلامية من 14 و8 آذار، وسيتوج عملها خلال شهر رمضان بورقة تفاهم برعاية مفتي طرابلس الذي أثبت حياديته وانه حصانة للساحة السنية. الحوارات التي حدثت مشجعة وأظهرت رغبة شديدة من مختلف الإسلاميين بلمّ الشمل. وهو ما ينسجم مع مطلب وحدة الصف الإسلامي السني ـ الشيعي أيضاً، الذي نرى تجلياته في الاتفاق الأخير مع حزب الله.

يرتاح الشيخ قليلا ثم يقول: «المهم بالنسبة لنا ان لا ندفع كإسلاميين الثمن كما جرت العادة. الكلام كثير في طرابلس عن أجهزة استخباراتية دولية تخترق المدينة، وأي منها يريد الايقاع بالإسلاميين، بمقدوره ان يضع انفجارات هنا وهناك، يبدأ بعدها القبض علينا ورمينا في السجون. هذا ما نتحسب له، وعانينا منه بعد أحداث الضنية والأشرفية، وحتى نهر البارد. نحن نعلم ان اياً من التيارات والأحزاب السياسية السنية لن يتمكن من الدفاع عنّا». أقاطع الشيخ مستفسرة، عن سبب استبعاده ان يكون أحد الفارين من تنظيم فتح الإسلام وراء انفجار طرابلس الأخير، فالعبوة كانت صغيرة وبدائية ولا تشبه سابقاتها، واستهدفت الجيش وهو العدو الأول للتنظيم. يجيبني الشيخ بدون تردد: «ما حدث هو إمعان في القتل، 16 قتيلا و45 جريحاً. هذا ليس عملا بدائياً بل احترافياً، والمكان كما الحيثيات، كلها كانت مدروسة بعناية. وإن لم نجد صيغة تفاهم تجمع الإسلاميين سيستفرد بنا، وسنتهم عند كل انفجار وحادثة، وما الماضي القريب عنا ببعيد». ويحدثني الشيخ عن ميثاق شرعي وضع ووقعت عليه كل القوى الإسلامية لضمان تماسكها بالحد الأدنى. وعندما أتعجب كيف يجتمع الإسلاميون المنقسمون على أنفسهم بهذه السهولة، يشرح لي أن كل فئة ممولة من جهة، وهي جهات تتضارب مصالحها، لكن عندما تحين ساعة الجدّ، هناك ثوابت شرعية تحكم الجميع، ولا أحد يخرج عليها.

أقول للشيخ لكن المحير أن يذهب حلفاء تيار المستقبل من الإسلاميين لتوقيع اتفاق مع حزب الله، دون موافقة تامة من التيار، أوليس هذا لغزاً؟ يعيد عليّ الشيخ ما قاله بطريقة أخرى: «هناك مصلحة حاصلة، والسؤال معكوس. فكم تلتقي هذه التيارات الإسلامية مع تيار المستقبل العلماني آيديولوجياً؟ هذه هي النقطة الفصل».

يأخذنا الحديث إلى اشتباكات باب التبانة التي باتت مزمنة وقاهرة للمدينة بأسرها، فيتساءل الشيخ سؤال العالم: «تورطت في هذه الحرب مجموعات إسلامية سنية، نزلت تقاتل العلويين، لكن يوماً ما ستنتهي هذه الفتنة، وينقضي مأربها السياسي الآني، فماذا سيفعلون بالإسلاميين الذين تم تسليحهم وتمويلهم وتجييشهم، ألن تتم فبركة تهمة لهم للتخلص منهم؟».

كلام الشيخ يدعو للتفكر فمن زمن الرئيس جمال عبد الناصر والإسلاميون يسمنون كي يؤكلوا، وتجاربهم مريرة، ويكاد لا يمر نظام عربي إلا ويرتكب الجرم نفسه بحقهم، فماذا هم في لبنان فاعلون؟

«لا شيء افضل من تحويل الخلاف السياسي إلى خلاف فكري هادئ ومسالم، وإلا تحولت التيارات الإسلامية إلى كبش فداء يضحي به الأطراف ليعقدوا صلحهم».

يحدثني الشيخ طويلا عن إحساس بالخيبة من القوى السياسية السنية التي تسعى كلها لتشتيت التيارات الإسلامية، ويقول: «تيار المستقبل ارتكب خطأ كبيراً، فقد تحالف مع الجماعة الإسلامية، لكنه بدل ان يكبّرها صغّرها». هنا يصبح الشيخ أكثر أنفعالا: «للجماعة تاريخ وجذور، وامتداد جغرافي وتاريخ سياسي، ولهم تمثيل شعبي، والتمثيل أصوات وانتخابات. لماذا لم يعطهم التيار في الوزارة الجديدة وزيراً ويكسر عين إبليس؟ في مختلف الانتخابات لم يعطوا حقهم أيضاً، لو انصفهم تيار المستقبل، لنموا، واستقطبوا الكثير من الإسلاميين وتمكنوا من تمثيل حالة متماسكة. نحن نعرف ان لا أحد يريد للتيارات الإسلامية ان تشكل كتلة قوية بمقدورها ان تزن في اللعبة السياسية». ألهذا تسعون لعقد مصالحات؟ يجيب: «طبعاً، حتى داعي الإسلام الشهال الذي يبدو على خلاف مع سلفيين آخرين، ليس بعيداً عن الحوار الجامع».

أترك الشيخ الذي كانت جلستي معه أشبه بفضفضة، وأفكر طوال الطريق كم ان المعارك في هذه المدينة متشابكة ومعقدة؟ وكم هو صعب ان يبنى وطن يعيش ابناؤه في حمى الخوف والخطط الاستباقية! صحيح ان لا حرب معلنة بين العلمانيين والإسلاميين، لكنها تبدو قوية وملتهبة تحت الرماد، ولا يستغرب ان تكون محركاً مهماً للاتفاق الذي وقّع بين السلفيين وحزب الله. أعود إلى البيان الذي وزعته منذ أيام «جمعية وقف التراث» التي بادرت إلى الحوار مع حزب الله، لشرح خطوتها لعموم المؤمنين، وأقرأ: «ان ما قمنا به من لقاء مع حزب الله ـ رغم ان الجراح لم تلتئم والدماء لم تجف ـ مبني على النقاط التالية:

1ـ منع الفتنة التي سيكون وقودها بالدرجة الأولى أتباع الدعوة السلفية، ويقطف ثمنها في حال نجا منها أحد... العلمانيون وأعداء الدين».

النقاط الثلاث الأخرى الموجودة في البيان، لا تقل دلالاتها أهمية عن الأولى، وتصبّ في مجرى كلام الشيخ ومخاوفه. فهل خرجت المواجهة الإسلامية ـ العلمانية إلى العلن في لبنان؟ ومن الذي يحرك خيوطها؟

[email protected]