نحن.. وحرب الحنين إلى الماضي

TT

كما البشر كذلك الدول: يصعب على كليهما نسيان «أيام العز» مهما حطّ الدهر بهما.

حرب جورجيا، في بعدها المعنوي والنفسي، حرب حنين روسي الى عز الاتحاد السوفياتي، إلى اليوم الذي كانت فيه جورجيا، مسقط رأس أشهر زعيم سوفياتي (جوزف ستالين)، جوهرة الامبراطورية.

انهيار الاتحاد السوفياتي خلف في روسيا «الديمقراطية» ايديولوجية حنين شوفيني الى الامبراطورية الغابرة ـ لا بمضمونها الماركسي، بل بثقلها الاستراتيجي في العالم.

على هذه الخلفية، تبدو جورجيا أحدث ضحايا سعي روسيا الحثيث لاستعادة اعتبارها الاستراتيجي، في ما كان عقر دارها قبل عقد من الزمن. وغير خاف أن العديد من الجمهوريات السوفياتية السابقة ـ مثل أذربيجان وأوكرانيا وأرمينيا ـ نال، في أعقاب انهيار المنظومة السوفياتية، عقابا ما على تجاهله المصالح الروسية، في ما تسميه موسكو «الخارج القريب».

في التسعينات كان العقاب متواضعا، بحكم الامكانات الروسية المتواضعة آنذاك. أما اليوم، وبعد أن التقطت روسيا أنفاسها وتحولت الى دولة غنية بفضل فورة اسعار النفط والغاز، وبعد ان أصبحت الولايات المتحدة دولة منهكة القوى بسبب حرب العراق، بات بإمكان موسكو عرض عضلاتها على العالم بثقة أقوى من أي وقت مضى منذ انهيار جدار برلين.

لن يغيب عن أذهان موسكو أن الادارة الاميركية كانت أبطأ وأقل حزما من الاتحاد الاوروبي في إدانة التدخل العسكري الروسي في جورجيا، فحرب العراق استنزفت إمكاناتها، الى حد يجعلها عاجزة عن توفير قوة ضاربة كافية لاعادة الاستقرار الى افغانستان، التي تتحول، بدورها، الى أولوية في حرب واشنطن على الارهاب.

وكذلك لن يغيب عن حسابات موسكو أن تحديها لعظمة الدولة الاعظم في عالم اليوم، لم يواجه في هذا التوقيت الدقيق بأكثر من السيناريوهات التي أصبحت تقليدية منذ ما بعد غزو العراق (التي اختبرها اللبنانيون في أوج «ثورة الارز»): التنديد، المطالبة بسحب القوات المحتلة... وايفاد وزيرة الخارجية كوندوليسا رايس، الى تبليسي لتأكيد الدعم الاميركي المعنوي للرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي. أما مطالبة ساكاشفيلي بدعم عسكري في أي مواجهة محتملة مع روسيا... فقد ظلت، وستظل، من دون جواب.

قد يقال ان جمهورية جورجيا كيان جغرافي صغير وضعيف لا يستأهل هذا «التأديب» إرضاء لحنين فلاديمير بوتين الى العظمة. ولكن عملية «التأديب» هذه تعتبر، بالمنظور الروسي، حربا بالوكالة على الغرب باكمله، خصوصا أن الولايات المتحدة هي التي أعادت تأهيل الجيش الجورجي ووثقت علاقاتها مع جورجيا، إلى حد اعتبارها شريكا عسكريا طبيعيا، في حرب «تحرير» العراق.

بالمفهوم الشوفيني الروسي، حرب جورجيا أبرز معارك الثأر من الاهانات التي تعرضت لها موسكو في التسعينات، ابتداء من قصف طيران الحلف الاطلسي لبلغراد عام 1999، وانتهاء بغزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003.. وما تخلل التاريخين من «اختطاف» الحلف الاطلسي لعدد من الجمهوريات السوفياتية السابقة.

اليوم باتت الصورة واضحة: لن تغامر أي دولة غربية، منفردة كانت أو في إطار حلف شمالي الاطلسي، في تحدي مصالح روسيا في «الخارج القريب» لحدودها فحرب جورجيا، في نهاية المطاف، هي معركة ترسيم الخط الاحمر المحظور على دول حلف الاطلسي تخطيه في أوروبا الشرقية.

... ولكنها، في الوقت نفسه معركة التمهيد لاعادة إحياء «الثنائية الدولية» وإن كان ذلك لا يعني، حتى الآن على الاقل، العودة الى أجواء الحرب الباردة.

من المبكر الاستنتاج ما إذا كانت حرب جورجيا بداية مرحلة جديدة في الدبلوماسية الروسية، ولكن عصر تجاهل مصالح روسيا في «الخارج القريب» انقضى، ما يعني أن كلمة روسيا ستصبح مسموعة اكثر من ذي قبل في أروقة القرار الدولي، خصوصا حيال «خارجها القريب». ولان الشرق الاوسط امتداد جغرافي لهذا «الخارج القريب»، بات على دول الشرق الاوسط العربية إعادة تقويم موازين القوى المتصارعة في المنطقة انطلاقا من الواقع الروسي المستجد.

وإذا كان العامل المطمئن للعرب من ازدياد الثقل الروسي دعم موسكو للسلام العادل في المنطقة، فقد يكون العامل المقلق تلك العلاقة الروسية ـ الايرانية الاكثر من جيدة... خصوصا انها مرشحة لان تكون ورقة أساسية في أي صراع روسي ـ أميركي جديد على النفوذ في المنطقة.