عادت روسيا.. ولكن أي روسيا تلك التي عادت؟

TT

منذ أن شن فلاديمير بوتين حملته لغزو جورجيا هذا الشهر طالعتنا عناوين الصحف الرئيسية في العالم وهي تصرخ: «لقد عادت روسيا»، وعلى افتراض أن تلك هي القضية، فقد يتبادر إلى أذهان البعض سؤال: أي روسيا تلك التي عادت؟

وقد يقول دارسو التاريخ إنها ربما تكون روسيا ألكسندر الأول، التي غزت جورجيا في 1801 وفصلتها عن إيران وبدأت سلسلة من الانتصارات انتهت بطرد إيران من القوقاز وبسطت سلطانها لتصل حدودها إلى نهر آراس، وفي تلك الفترة تحالفت جورجيا، المسيحية، مع روسيا ضد إيران. وكان ألكسندر قد تعهد بعدم التوقف عن القتال حتى تصل إمبراطوريته إلى المياه الدافئة للمحيط الهندي وتتصل بأشقاء روسيا من السلافيين في البلقان.

وهناك نظرية أخرى تقول إن روسيا التي يفترض أنها عادت هي تلك القوة التي أوجدت «سجن المائة دولة» وأرخبيل جولاج وقبور 60 مليون ضحية للبلشفية. وأخيرًا قد يقول قائل إن روسيا التي عادت هي تلك التي أرسلت الدبابات إلى وارسو وبودابست في 1956 وبراغ في 1968 وأجبرت البولنديين والمجريين والتشيك والسلوفاك على اعتناق مبادئها الشيوعية.

وأيا كانت المسألة، فنحن نعلم أن تلك الصور الثلاث لروسيا انتهت إلى مزبلة التاريخ. وقد يكون الغزو الروسي لجورجيا دلالة، أكثر من كونه عودة لروسيا كقوة عظمى، محاولة إعادة حقبة في التاريخ لم يعد لها مكان في عالم اليوم.

ومنذ قيام روسيا كدولة في عام 1547 قسمت النخبة فيها إلى فريقين: الأول يناصر القوميين السلاف والذي استلهم من فينكو بريبوجيفيتش الذي رأى روسيا «روما الثالثة» وحلم بتوحيد كل الشعوب السلافية لغزو العالم باسم مذهبهم الأرثوذوكسي المسيحي، ونظر إلى أوروبا الغربية على أنها ديمقراطية فساد وأنها تشبه المرض المهلك.

وبفعل القيد الذي يأسرهم إلى ذكريات الغزو المنغولي وحكم التتار، يروج المثقفون المؤيدون للسلاف بناء دولة قوية، تعني من الناحية العلمية بناء جيش كبير ورسم مخططات للغزو، وذلك من شأنه حماية روسيا من الإذلال وسيطرة الآخرين. وعلى الرغم من أن الكثير من مؤيدي السلاف هم من المثقفين، فهم ينظرون إلى المثقفين على أنهم أعداء لفكرة الدولة القوية. ومن المفترض أن يدير دولتهم النموذجية رجال تعوزهم الثقافة وأكثر ميلا لممارسة السلطة من دون قيود، بدلا من التعقيدات السياسية التي تعتمد على المنافسة الديمقراطية.

ويعرف الفريق الثاني باسم المستغربين، وقد ظهر في القرن التاسع عشر بفضل بعض الرجال أمثال هيرزن وبلينكسي وتورجنيف. وكانوا يحلمون بدولة ديمقراطية على النمط الأوروبي تلعب الثقافة فيها دورا محوريا بدلا من القوة العسكرية. وفي هذا النظام ستكون الدولة أكبر من المجتمع.

ولفترة وجيزة، بدا أنه بعد سقوط الإمبراطورية السوفياتية سوف تتاح للمستغربين الفرصة الأولى الحقيقية للسيطرة على السياسة الروسية.

وتحت حكم فلاديمير بوتين سيطر نموذج معدل من «الدولة القوية» على الساحة السياسية في روسيا. دعم كثير من الروس، وربما أغلبية في ذلك الوقت، «الدولة القوية» كرد فعل عاطفي على عمليات إذلال حقيقية أو تصورية في أعقاب تفكك الإمبراطورية السوفياتية. أعجبوا بنموذج الدولة الذي اعتمده بوتين وكانوا يعشقون عدم فرض قيود على ممارسة السلطة والدبلوماسية على نمط المخابرات الروسية.

والمشكلة بالنسبة لروسيا هي أن الكثير من السلطة كما ظهرت على شاشات التلفزيون عبارة عن نموذج من قرى «بوتمكين» التي خدعت كاترين الثانية. وقد استغرقت روسيا نحو عامين للتخطيط لغزو لجورجيا، وهي دولة صغيرة يبلغ عدد سكانها نحو أربعة ملايين نسمة.

لا.. فغزو روسيا ـ بغض النظر عن دوافعه ـ لا يعد علامة على عودة روسيا كقوة كبرى.

تحت حكم بوتين، أصبح الاقتصاد الروسي يعتمد على زراعة محصول واحد. فمن بين ستة آلاف صنف أو نحو ذلك تسيطر على السوق العالمية، لا يوجد صنف واحد روسي. ويبلغ نصيب روسيا أقل من 1 في المائة من براءات الاختراع المسجلة عالميا كل عام. وبعيدا عن البترول الخام والغاز الطبيعي، ليس لدى روسيا الكثير من البضائع كي تعرضها. وهي تحتل في الوقت الحالي المركز الخامس في تصدير المعدات العسكرية بعد أن كانت تحتل المركز الأول. وحتى بالنسبة للكافيار والفودكا، نجد أن إيران والسويد تبيعان على التوالي أكثر من روسيا. وتتحكم مجموعة صغيرة، ربما 1 في المائة من السكان، في نحو 70 في المائة من الدخل القومي.

روسيا الحالية ليست هي الدول الغنية، بيد أن بها الكثير من المال. والدولة الغنية هي تلك التي تحتوي على مدارس وجامعات ومستشفيات ومحميات طبيعية ومكتبات ومراكز بحثية ومنشآت رياضية، بالإضافة إلى طرق سريعة وسكك حديدية ومطارات حديثة. كما يكون للدولة الغنية نتاجها من الآداب والفنون والثقافة، وتفوز بجوائز نوبل في المجالات العلمية وتتألق في الأحداث الرياضية العالمية. لقد أثمرت روسيا الجديدة ثقافة من المادية على نمط المافيا يزكيها الطمع والعنف.

كما تشهد روسيا انحلالا ديموغرافيا غير مسبوق، فقد تراجع عدد سكانها خلال العقد الماضي بنسبة نحو 10 ملايين، وإذا استمر الاتجاه الحالي، فمن الممكن أن يكون عدد السكان أقل مما هو في إيران بحلول 2020. وتتراجع نسبة الروس الأصليين بسرعة أكبر. وإذا استمرت الاتجاهات الحالية، فستكون المجموعات الإثنية التركية أكبر تجمع سكاني في الاتحاد. ومن المحتمل أن تحتوي روسيا بحلول منتصف القرن الحالي على أغلبية تركية وإسلامية.

لا تعود روسيا إلى أي من صورها السابقة، لا تعود روسيا إلى أي منها لأن تلك الأنماط لم تعد موجودة. ما تحتاجه روسيا هو التحرك للأمام كي يكون لديها مجتمع قوي، وليس عودة للخلف إلى الدولة القوية على نمط «بوتمكين». وعن قريب أو بعيد، سيرى الروس حملة فلاديمير في منطقة القوقاز.