بين الشيعة والسنة.. الصراع الديني والصراع السياسي

TT

قبل خمسة أيام أعلنت جماعة سلفية صغيرة بطرابلس عن عقد ميثاق تفاهم مع حزب الله، عماده أمران: تحريم سفك الدم بين المسلمين، وتحريم التكفير. وفي وجه تكاثف الاحتجاجات على «الميثاق» المذكور أعلن رئيس المجموعة «تجميد» التفاهم أو الاتفاق سعياً للمزيد من التشاور، والتماساً للرضا السُنّي العامّ عنه.

كان رأي الذين اعترضوا على توقيع الميثاق أنّ الاتفاقات الثنائية تشرذم ولا توحّد، وأنّ الحزب سعى للاتفاق مع هذه الجهة، التي لا خلاف بينه وبينها، متجاوزاً الذين اختصم معهم بسبب دخوله إلى بيروت بالسلاح؛ ولذلك يكون، عليه لكي تكون المصالحة حقيقية أن يتجه إلى المرجعيات.

والذي أراهُ أنّ نَصَّ الاتفاق لا غبار عليه بالفعل. لكنه فوَّتَ الكثير أو تناساهُ، ثم إنّ السياقات التي تمَّ فيها لا تخدمُ في الوصول إلى المُصالحة بين عناصر وطوائف المسلمين في لبنان.

أُولى المشكلات وأهمّها، أنّ النزاع بين حزب الله وأنصاره وحلفائه من جهة، والحكومة اللبنانية السابقة وتيار المستقبل وقوى 14 آذار؛ حتى عندما ضاق إلى أن يكونَ بين حزب الله وأهل بيروت والبقاع، وبقية أهل السُنّة في لبنان، ما كان نزاعاً دينياً، ولذلك لا معنى للتفاهُم «الديني» بين الطرفين على عدم إثارة الخلافات الدينية. فنحن أهل السنة بلبنان ما اختلفنا مع حزب الله على مفهوم التنزيه والقضاء والقدر وعدالة الصحابة وعدد الأئمة وغيبة الإمام ورجعته وأخيراً ولاية الفقيه العامّة، بل كان خلافنا على ثلاثة أمور: خروج حزب الله على الدولة اللبنانية، وتسببه مع سورية وإيران في تحويل لبنان إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية ـ وإثارته للتوتر بين الشيعة والسنة، وهو أمرٌ ما كان معهوداً عندنا في لبنان من قبل ـ وأخيراً دخوله مع أنصاره إلى بيروت والجبل والبقاع الأوسط بالسلاح، في مواجهة مدنيين عُزَّل معظمهم من أهل السنة لإرسال رسائل، وتحقيق أهداف سياسية.

في الأمر الأول، أمر النزاع مع الدولة اللبنانية؛ فإنّ الحزب احتفظ بسلاحه وزاده بعد خروج إسرائيل من لبنان عام 2001. والطريف أنه في الوقت الذي احتجَّ هو بتحرير مزارع شبعا، رفض حلفاؤه السوريون الاعتراف رسمياً بملكية مزارع شبعا للبنان، كأنما يفضلون بقاء النزاع والاحتلال من أجل الإبقاء على مبرر سلاح الحزب، لمنع قيام دولة لبنانية ذات سلطة على أرضها. ولأسباب إقليمية خاضوا حرب تموز 2006. وفي حين اهتمَّ العربُ والمسلمون بأنّ الشباب صمدوا في وجه إسرائيل؛ كان علينا أن نهتمَّ إضافة لذلك بالشهداء وبالخراب والتهجير الكبير الذي حصل، وبذريعة أسيرين لبنانيين، ومزارع شبعا العتيدة! وها هم اليوم ما يزالون وبعد تبادُل الأسرى مع إسرائيل، على سلاحهم، ويفتخرون بعدد صواريخهم، ويخونون الآخرين الذين لا يُقدّسون المقاومة، ولا يتلقون دعمها المعنوي وغير المعنوي(!).

وفي الأمر الثاني، عمدوا قبل حرب تموز؛ وبعدها ومتعمدين لإثارة نزاعات طائفية بين المسلمين. فهم يعرفون معنى قتل الرئيس رفيق الحريري بالنسبة لإخوانهم من السُنّة. ومع ذلك فقد قاطعوا الحكومة ثم غادروها لمنع إقرار المحكمة. وبعد حرب تموز مباشرة، ووسط الخراب والدم والدمع والتهجير الكبير، اتجه همُّ الحزب إلى تخوين الحكومة ورئيسها بحجة العمالة لأميركا وإسرائيل، والزعم أنّ السنيورة كان يريد تهجير الشيعة بالسفن، والاعتصام لأكثر من عام ونصف العام بوسط بيروت، بعد اعتزام اقتحام السراي الحكومي، والصراخ كلّ الوقت: لو قتلوا منّا ألفاً لن ندخل في الحرب الأهلية، وهم يريدون منعنا من أداء شعائر عاشوراء.. الخ. ماذا يعني هذا كله؟ لقد كان صعباً إسكات الأصوات المعترضة ضمن الطائفة الشيعية بعد خراب حرب تموز، وبدلاً من أن تكون المشكلة مع إسرائيل، وإعادة الإعمار، صارت المشكلة: استثارة الشيعة وحشدهم بحجة أنَّ «السُنّة» ضدَّهم، وهذا أمرٌ يحدُثُ في لبنان للمرة الأولى، رغم كثرة الفتن والحروب فيه. فقد أراد حزب الله شقَّ الصفوف قَسراً وبالقوة من أجل هذا الأمر، أي حشد الشيعة من ورائه، لكي يقفوا في وجه المسلمين الآخرين وتوجيه الرسائل الإيرانية الاستقوائية من خلالهم ضدَّ السعودية، والقول للعالَم الغربي والولايات المتحدة، كما ذكر نائب الرئيس الإيراني أخيراً إنهم يملكون أوراقاً في لبنان والعراق وغزة، وسيُسهِّلون الأمور إن سَهل الغربيون أُمور إيران!

وفي الأمر الثالث: على وقع تصاعُد التوتر في المنطقة، وبروز ضرورة توجيه رسالة لافتة بعد رسالة حرب تموز، وتحقيق مكاسب لأنصاره بالداخل، قام حزب الله باجتياح بيروت في 7 أيار (مايو) 2008، وتحقق له ما أراد في اتفاق الدوحة، وما يزالُ السُنّةُ ينزفون بطرابلس، ونصر الله مصر على أنّ قتلاه وقتلى حركة أمل والحزب السوري القومي وحزب طلال أرسلان هم شهداء، وقتلانا هُم ضحايا! ثم يأتي رجالهُ للاتفاق مع الشيخ حسن الشهاّل وآل الزُعبي بطرابلس على تحريم دم المسلم وتكفيره!

فالنزاع الذي تحوَّل إلى توتر تسبّب فيه حزب الله بين السنة والشيعة في لبنان، هو نزاعٌ سياسيٌّ واستراتيجي. وقد عبر عن ذلك السيد حسن نصر الله دائماً بإحدى صيغتين: نهج المقاومة في مواجهة نهج الاستسلام لأميركا وإسرائيل، أو أنه من حزب ولاية الفقيه، وقد خاض معها حروباً

(أي ولاية الفقيه)، وسوف يخوض!

في لغة الخطاب السياسي بشأن المقاومة، أراد الحزب، وأرادت إيران كسب الرأي العامّ العربي والإسلامي. وقد حقق الحزبُ اختراقات مهمة على هذا الصعيد، تراجعت كثيراً بعد غزو بيروت. وفي الحزب وإيران الآن أحد اتجاهين لاستعادة الوهج الذي أضاعتهُ الغزوة: اتجاهٌ يقول إنه لا بد من غارةٍ على إسرائيل بأي شكل بحجة مزارع شبعا، أو قتل عماد مغنية أو نُصرة حماس أو إحراج سورية، التي دخلت في مفاوضات مع إسرائيل. لكن دون هذا الاتجاه عقبات تقنية وسياسية/ استراتيجية. من الناحية التقنية ابتعد الحزبُ عن الحدود مع إسرائيل من 20 إلى 30 كيلومترا، والصواريخ المتوسطة المدى التي يملكُها لا تفيدُ كثيراً في إيلام العدوّ، الذي يستطيع أن يردََّ تسعةً من كل عشرةٍ منها. ثم إنّ أحداً لا يدري كم تكون رَدةُ فعل إسرائيل عنيفةً هذه المرة. وأخيراً لا أحد يدري كيف تكونُ رَدَّةُ فعل سورية؟! وفي الأيام الأخيرة، وفي وجه التشكُّكات بجدوى الهجوم وبيئاته المحيطة، كان هناك مَنْ قال إنّ أحداث جورجيا فتحت هوةً كبيرةً بين روسيا والغرب كلّه، ولذا فإنّ روسيا وانتقاماً من أميركا وإسرائيل ستقترب من إيران، وستُسلِّح سورية، وستُقرِّبُ بينهما ـ ولذا فقد يكونُ الظرفُ أكثر ملاءمةً لتضرب إيران من خلال الحزب مرةً أُخرى، ولتُعيدَ خَلط الأوراق بالمنطقة، بعد أن صار الغرب متجهاً كله ضدها لمنعها من السير في إنتاج النووي.

لكن كان هناك وما يزال من يرى ضرورة المراجعة والحديث مع السُنّة المتضررين والمستثارين من جبروت الحزب، واستخفافه هو وإيران بكلّ الانقسامات التي أحدثوها بينهم وبين السنة، وداخل أهل السنة أنفسهم! ولا شكَّ أنّ الاتفاق المجمَّد مع فريق صغير من سلفيي طرابلس ليس من إنجاز أهل المصالحة ضمن حزب الله، بل من الفريق نفسه الذي عمل على الاختراقات طوال السنتين الماضيتين. فقد قصدوا جهة صغيرة مسالمة لها علاقة بالسلفيين الكويتيين، الذين لهم مصالح تجارية كبيرة ـ ضمن الرأسمالية الكويتية ـ مع إيران. وقد قاموا بذلك من قبل مع فتحي يكن وبلال شعبان وأمثالهما. لكنّ أهلَ المصالحة أنفسهم ـ وهم قِلّة، يُواجَهون بالرأي الذي يقول إنّ الصراع ما يزال في أَوجه، وهو يشمل التوتير مع السعودية، فلم يؤن الأوانُ بعد لتخفيف الضغط على السنة لا في لبنان ولا في أيّ مكان. ويتابع هؤلاء: لقد قلنا إنّ الجماعة تآمروا على المقاومة، وأنشأوا تنظيمات مسلحة لضربها لصالح أميركا وإسرائيل، فماذا سنقول لجماعتنا الآن إذا أقبلنا على الاعتذار من أهل بيروت والبقاع ومصالحتهم؟!

ولأختم بكلمة تتعلق بالعلاقات الشيعية/السلفية. فمما له دلالتُهُ أنّ الذين اتفقوا مع حزب الله بطرابلس يسمُّون أنفسهم سلفيين. والواقع أنه إذا كنا نطالبُ الأصوليين الشيعة الصاعدين بالمُراجعة، والعودة لتأمُّل علائقهم المضطربة بمحيطهم العربي والإسلامي تأمُّلاً نقدياً؛ فإنّ السلفيين، أو المتشدّدين من بينهم، مُطالبون بالمراجعة أيضاً، وليس منذ الآن، بل ومنذ مائة عام، وليس تُجاه الشيعة فقط، بل تجاه السُنة الآخرين، والعالَم الأوسع.