مأزق التجانس

TT

عندما نشأت دولة باكستان المستقلة عام 1947 أوجدت حلا جذريا لمشكل التنوع الديني المعقد الذي اعتبر الخطر الأكبر الذي يتهدد شبه القارة الهندية بعد تحررها من الاستعمار البريطاني.

ووفق المقاربة التي تبنتها الزعامات الإسلامية فان إنشاء دولة خاصة بالمسلمين سيمكنهم من بناء كيان متجانس مستقر، باعتبار أن مدار الفتنة والتفكك هو دوما التناقضات الدينية التي تطرح مشاكل التعايش غير القابلة للحل.

نجح المشروع وقامت الدولة التي اتسمت بالتجانس الديني شبه الكامل. قدمت نفسها بأنها دولة المسلمين، وفي بعض المراحل (حقبة الجنرال ضياء الحق) اعتبرت نفسها جمهورية إسلامية ترث دولة الخلافة الضائعة.

وفي الوقت الذي حافظت الهند على مستوى كثيف من التنوع الديني والقومي ضمن منظور ديمقراطي مستقر، أخفقت باكستان في إدارة تجانسها وعاشت منذ استقلالها في الغالب تحت الأنظمة القمعية الاستبدادية التي كان آخرها حكم الجنرال مشرف الذي أرغم مؤخرا على التنحي ومغادرة المعترك السياسي نهائيا.

صحيح أن في باكستان تنوعا قبليا له أحيانا بعض الأثر على طبيعة الأزمات السياسية الداخلية، بيد انه تنوع ضيق ومحدود لا يتعلق بهوية الدولة وتركيبتها الاجتماعية، كما هو الشأن في بعض البلدان التي يقوم فيها الصدام على خط الاختلاف والتباين حول مقومات الدولة ذاتها.

وعلى عكس الصورة السائدة في الدراسات السياسية، قد لا يكون التنوع هو العائق أمام الاستقرار الديمقراطي، بل ان التجانس هو في الغالب مصدر الأزمات الداخلية والاستبداد الأحادي. ففضلا عن كون الاختلاف ثابتا من ثوابت المجتمعات الإنسانية، حتى لو لم يتخذ طابع التعارض الجذري الذي يحصر عادة في التنوع الديني والعرقي، فان التجانس مفض بطبيعته الى سهولة التحكم وسلاسة السيطرة، ومؤد الى وهم الاستقرار.

وإذا استثنينا الحالة اللبنانية التي تتخذ دوما مختبرا لمعادلة التعددية الدينية والطائفية في المجال العربي، فان البلدين الأكثر تجانسا في منطقتنا وهما اليمن والصومال عرفا أكثر الأزمات الداخلية شراسة وعنفا، فتعرض أحدهما للتفكك والانقسام وعرف الآخر صراعا داخليا مسلحا حادا كاد يقضي على وحدته الهشة التي حققها بالتراضي.

في لبنان ضمنت معادلة التنوع الحد الأعلى من الحريات في العالم العربي، ولم يكن هذا التنوع في ذاته السبب الجوهري للحرب الأهلية المدمرة الطويلة التي عرفتها البلاد (التي كانت في الواقع حربا إقليمية ودولية على المسرح اللبناني)، بقدر ما ان الفتنة الداخلية الجزائرية في التسعينيات لم تكن نوازعها قومية أو طائفية بل نجمت عن صراع النخب السياسية ومازق التحول الديمقراطي الذي دخل فيه البلد بعد انتخابات 1992. كما لا يمكن النظر الى الفتنة الأهلية الراهنة في العراق بأنها صدام ناتج عن تنوع التركيبة القومية والطائفية، بل هي حصيلة مسار إعادة إنتاج الطائفية الذي كرسته سياسات المحتل والقوى الإقليمية المستفيدة من انهيار النظام البعثي (وفي مقدمتها إيران).

فالتنوع إذن ليس مصدرا آليا للتفكك والتأزم، بل يؤدي في الظروف الطبيعية دور الضامن للاستقرار والحرية، بما يفرضه من توازنات دقيقة، كما ظهر جليا في تجارب البلدان الديمقراطية العريقة.

أما التجانس فينتج بذاته ديناميكية تشتت وتصدع، بما يؤدي إليه منطق الهوية من انغلاق وأحادية وانكفاء على الخصوصية، في حين لا تخلو أي هوية من انثناءات واختلافات وتمايز. ولذا ندرك كيف قادت النزعة الوطنية الضيقة في الصومال أيام حكم سياد بري الى تأجيج الفتنة داخل مجتمع كامل التجانس من حيث القومية والدين بل والمذهب الفقهي.

وكذلك الشأن بالنسبة لليمن، الذي لم يطرح فيه التنوع المذهبي أي إشكال، باعتبار التداخل العضوي فقهيا واجتماعيا بين الطائفتين السنية الشافعية والشيعية الزيدية، في حين أدت الصراعات السياسية الداخلية الى تمزيق النسيج الوطني المتجانس.وحاصل الأمر ان الخطاب التخويفي من الديمقراطية التعددية من منطلق الحرص على حماية سلم واستقرار النسيج الاجتماعي من التفكك والتصدع لا يستقيم، لان الاختلاف هو الضمانة الحقيقية للاستقرار والحرية، وهو السمة الثابتة في المجتمعات الإنسانية التي لا بد من التعامل الموضوعي معها، أما التجانس المطلق فليس سوى وهم يغذي منطق الأحادية المفروضة ويؤدي في الغالب الى الصدام والتناحر.

وفي التجربتين الهندية والباكستانية مادة للمقارنة والاعتبار.