مصيبة المصائب

TT

العلة الكبرى في العالم العربي ليست هي الفقر، ولا المرض، ولا الغلاء، ولا ولا ولا والى ما هنالك من ولا (وبلا).

رغم أن كل واحدة من هذه المصائب تشكل في حد ذاتها (علةّ كبيرة)، غير أن العّلة التي اعتبرها (مصيبة المصائب) هي (العدالة الكسيحة) ـ إن جاز التعبير. نعم إنها هي الركن الأساسي الذي يستند عليه أي مجتمع، وإذا كان ذلك الركن هشاً أو مشروخاً أو مزيفاً اختل المجتمع وحل فيه العطب. إنني على يقين أن الغالبية العظمى ممن يقرأون هذه الكلمات، أن كل واحد منهم على حدة له قضية أو مشكلة يريد حلها في المحاكم دون جدوى، ودون حساب أو تقدير للزمن. الكل يشكو والكل يتذمر من التأجيل والتمطيط وتكدس القضايا في الأدراج دون أية رحمة أو مسؤولية أو إحساس بعذاب وقهر الآخرين.

المحاكم في عالمنا العربي لم تطور نفسها، وإنما هي ما زالت (تراوح مكانها)، رغم المباني الحديثة، والكومبيوتر، فماذا سوف تفعل الأجساد المترهلة مع حداثة المبنى، ومع أجهزة التكنولوجيا المتقدمة؟!.. إن المباني والأجهزة ما هي إلاّ وسائل، وإذا لم يتبدل الإنسان القائم عليها بنفسه، نعم إذا لم يبدل الانسان جلده، ليقضي على جراثيم التعقيد فلن تقوم قائمة لا للمحاكم ولا للعدالة في بلادنا العربية.

هناك تجربة بدأتها الدول الأوروبية منذ (الستينات) لتفعيل المحاكم والعدالة لديهم، وللتسريع في حسم المشاكل، أصدروا قانونا تحال بمقتضاه كل الدعاوى المدنية التي لا يتجاوز نصابها مبلغاً معيناً (وحدوده)، تحال إلى لجنة من ثلاثة أعضاء من المحامين يقومون بالتحكيم، وقد تطوع وانخرط في هذا الأسلوب الجديد آلاف المحامين.

وثبت عملياً لا كلامياً أن القاضي سابقاً قبل هذا القانون، كان بالكاد يحسم وينهي (150 قضية بالسنة) لكثرة ما هو مثقل بالأعباء، في حين أن تلك اللجان استطاعت أن تحسم وتنهي (1000 قضية في شهر واحد).

وهذا التحكيم هو إجباري وقد تقبله الناس وتنفسوا الصعداء وفرحوا به، ويقول احدهم: «لقد حفيت قدماي وراء قضيتي ثلاثة أعوام في أروقة المحاكم، والآن فصل فيها المحامون في ساعتين».

كانت بعض القضايا في السابق تتطلب قاضياً واحداً للعمل 60 عاماً لحلها، أو عمل ستين قاضياً لحلها في سنة واحدة، أما الآن فتلك (الديناميكية) اختصرت الوقت والجهد ووفرت أموالاً طائلة من نفقات المحاكم والموظفين والمصروفات العامة، وهناك فائدة أخرى للتحكيم الإجباري، وهو أن مجرد (التهديد) قد أدى إلى تسويات سريعة لآلاف من القضايا الطفيفة، وذكرت التقارير أن هناك دليل مؤكد على أن لجان المحامين تراعي ضميرها في الوصول إلى قراراتها، لان هناك نسبة ضئيلة لا تزيد عن (4%) هي التي تستأنف، و(80%) من القرارات المستأنفة يصدر الحكم بتأييدها. إنني اعتقد أن العدالة البطيئة ما هي إلاّ ظلم مبطن، وما أكثر اللصوص والمدعين والمشاغبين والأذكياء المزورين الذين أكلوا حقوق الآخرين، و(مرمطوهم) في المحاكم، ومات أصحاب الحقوق ولازال أبناؤهم وأحفادهم يطالبون ويركضون وراء تلك الحقوق التي عششت عليها العناكب بين أوراق المعاملات (التقليدية البيروقراطية).

[email protected]