دنيا محمد شكري أن يتساوى البحران (3)

TT

صعدت من الميناء الى المدينة القديمة مرورا ببابها الرئيسي «باب الفحص»، ثم عبر «زنقة المنصور» نحو «السوق الداخلي». وبرغم كل المشاهد والمقعدين والمشرد الذي لم يستحم منذ ان افرغ سيدنا نوح بعض حمولة سفينته هنا، كان من الصعب ان اتخيل الفقر الذي اضني به محمد شكري: «اضطرت أمي الى بيع الخضار في أسواق المدينة. وأنا كنت اقتات من ازبال النصارى الغنية لأن ازبال المغاربة المسلمين كانت فقيرة».

تلك كانت الاربعينات، يوم كانت طنجة «مدينة مفتوحة» تحت الوصاية الدولية، وكانت مليئة بالسفن الحربية وجنودها، تقدم لبحارتها ما يرغبون. هل تذكرون عنوان نزار قباني الشهير: «نساء وحشيش وخمر»؟ محمد شكري كان يؤمن نوعين من البضائع المذكورة. ومن هذا القعر خرج لكي يصادق كبار الكتاب الغربيين الذين جاءوا يعيشون في عالم طنجة، ويترجم أعمالهم، ويترجمون أعماله «الملعونة» التي ظل أولها ممنوعا عشرين عاما قبل ان ينشر في العالم العربي. لقد نشره الرجل الأول الذي أرسل إليه محمد شكري من قبل أولى بواكيره: سهيل إدريس صاحب «الآداب».

المقاهي نصف حياة المغربي, على الأقل. وقد رأيت المقاهي في الطبقات العليا فقط في بيروت ما قبل الحرب وفي طنجة. واذا كان «الكافي سنترال» هو الأقدم والأشهر، فهو ليس سوى واحد في منظومة لا يعرف أحد أولها ولا آخرها. وقد خرجت المقاهي الآن من القصبة الى طنجة الجديدة، والطبقات العليا في مبانيها، وامتلأ شاطئها بصف طويل من القهاوي والمطاعم والمراقص الحديثة التي لم تكن معروفة في أيام محمد شكري و«حي بن بدر».

المقاهي، بهذه الاعداد، دليل سيئ. نقول الأعداد دون أن نقول ان عدد العاطلين عن العمل لا يزال كبيرا. وطنجة مثال مؤسف على الفارق بين الغرب والشرق. المهاجرون يعبرون البحر في اتجاه اسبانيا خلف أي عمل والسياح يعبرون من اسبانيا في اتجاه متع الاجازات. واتمنى يوما يتساوى فيه البحران. ولا يكون ذلك بأن ننسف قطارات اسبانيا، بل في ان نقلد دأبها.