الزعماء (والعبرة الكبرى).. في رحيل مشرف ومصيره

TT

«نحن ممتلئون اقتناعا بأن مهمة الجيوش هي حماية حدود الوطن: لا حكم الوطن!.. هذه واحدة، والثانية: ان الانقلابات العسكرية ليست وسيلة صحيحة للتغيير والاصلاح.. والثالثة: انه يُخشى ان يكون انقلاب باكستان: استئنافا لأسلوب الانقلابات الذي انتشر في الخمسينات والستينات من القرن العشرين.. أما الرابعة فهي أننا شهود على خيبة التجربة العسكرية الانقلابية في العالم الإسلامي كله: بلا استثناء»..

هذا أول تعليق كتبناه في هذا المكان، في هذه الجريدة ـ بتاريخ 16/10/1999 ـ على انقلاب برويز مشرف في باكستان يومئذ ولا ندري: ما هي حكاية شهر (اكتوبر) مع باكستان. ومع برويز مشرف؟، ففي اكتوبر عام 1999 قام مشرف بانقلابه الذي قفز به ـ كما أشير قبل ثوان ـ الى السلطة.. وفي اكتوبر عام 2007. أعاد مشرف (تمثيل) انقلابه الأول من خلال اجراءات عسكرية منها: إعلان حالة الطوارئ (كانت أحكاما عرفية في حقيقة الأمر).. وعزل قضاة المحكمة العليا.. وتعليق الدستور الدائم.. وتعطيل محطات التلفزيون والإذاعة غير الحكومية.. وإطلاق يد الجيش والشرطة لممارسة اعتقالات بالجملة الخ.. ومنذ ذلك الحين ظلت باكستان تفور وتغلي بما يهدد وحدتها واستقرارها وأمنها الوطني.. ثم كانت العقبى المرّة: تخيير مشرف بين أمرين: إما المحاكمة والإدانة والعزل.. وإما الاستقالة، فكانت الاستقالة!! والحق: ان هذه نتيجة بائسة لمدة سنوات عشر قضاها مشرف في حكم باكستان، ذلك أن أشرف وأنبل وأحلى ما في الحكم، ليس مدة (التمتع) بممارسته، بل ان أعظم وأحلى ما فيه هو (السمعة الطيبة) بين الناس، بعد ترك الحكم: لهذا السبب أو ذاك.. وهذه السمعة الطيبة من أجمل وأصدق وأسمى منازع الفطرة البشرية السوية، ولذا رغب فيها أبو الأنبياء وخليل الرحمن: سيدنا إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ دعا ربه بهذا الدعاء الصادق الحاني الجميل:«واجعل لي لسان صدق في الآخرين»، أي الثناء الحسن في الأجيال القادمة.

ولئن مضى مشرف إلى سبيله ومصيره، فإن مما يتوجب على نظرائه (الباقين) ممن يشاركونه في (صفة الحكم): أن يفتحوا عيونهم وأفئدتهم وعقولهم: ابتغاء أن تتغلغل فيها وتتمكن (العبرة الكبرى) من رحيل مشرف ومصيره (والسعيد من اعتبر بمصير غيره). وعميقة العبر وكثيرة: لا عبرة واحدة.

1 ـ العبرة الأولى هي: أن (السند الرئيس) ـ بعد توفيق الله ـ، لأي حكم، وأي حاكم هو (شعبه)، هو (أمته) هو (الجبهة الداخلية)، فإذا فرط الحاكم في هذا الرصيد الضخم الأساس، أو زهد فيه، أو استخف به ـ اعتمادا على مقومات أو وعود أو عكاكيز خارجية ـ أو سوء حساب: خر صريعا، في هذه الصورة أو تلك: ـ على عجل أو على مكث ـ، ولم ينفعه عندئذ خيط عنكبوت من الخارج، بافتراض ان خيطا كهذا قد مُدّ إليه من الخارج!.. فالتجارب توكد: أن الجهات الخارجية التي جرى (التوكل) عليها هي أول من يتخلى عن الحاكم الذي فرط في رصيده الأعظم وهو شعبه أو أمته لأجل إرضاء قوى خارجية أو أجنبية التي مثلُها كمثل الشيطان الذي يعد ولا يفي، بل يعد بقصد التوريط والتشجيع على ارتكاب الأخطاء القاتلة، ثم التهيؤ للبراءة مما حدث عندما تقع الواقعة:«وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي».. (معنى مصرخكم: مغيثكم).

2 ـ العبرة الثانية ـ المرتبطة بالأولى والموكدة لها ـ: أن تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها المقربين، قد تكاثرت وقائعه حتى أصبح ظاهرة تستوجب الاعتبار الفطن الدائم (بمقياس غريزة المحافظة على الذات على الأقل).. وإذا كان من الغش والتضليل والظلم: إطلاق الكلام بلا دليل، فإننا نقدم أدلة ثلاثة كنماذج ـ على حقيقة السلوك الأمريكي في هذا الميدان: الدليل الأول هو: التخلي المباغت والفاجع عن شاه إيران.. يقول وليم ساليفان (آخر سفير أمريكي في إيران قبيل رحيل الشاه).. يقول ـ في كتابه: أمريكا وإيران ـ:«التفت الشاه نحوي وقال: إن هناك مؤامرة أجنبية تنشط ضدي. وأنا لا استغرب أن يفعل ذلك السوفيت والانجليز، لكن مما يحزنني في الأعماق أكثر من أي شيء آخر هو دور الـ CIA في هذه المؤامرة، ولا زلت أسأل نفسي عن الأسباب التي جعلت المخابرات الأمريكية تشترك في المؤامرة؟.. ما الذي اقترفته ضد أمريكا حتى تعاملني بهذه الطريقة القاتلة»؟.. الدليل الثاني على (نظرية التخلي الأمريكي عن الحلفاء) هو: تخليها عن (سوهارتو): الرئيس الأندنوسي الأسبق. لقد كان الرجل حليفا قويا للولايات المتحدة: لم (يعص) لها أمرا، لا في السياسة، ولا في الاقتصاد، ولا في الأمن الاستراتيجي، ولا في (الإسراف) في خدمتها في مواجهة المد الشيوعي: في اندنوسيا وما حولها. لقد كان ـ بحق ـ (الجنرال الأمريكي) في الجيش الاندنوسي، ثم في حكم اندنوسيا.. ثم كانت عاقبته: السقوط المخزي من الحكم الذي كان سببه المباشر (ثورة شعبية) ضد تدخلات البنك الدولي التي أدت الى انهيار مروع في معايش غالبية الشعب الاندنوسي، ومعروفة هي (ارتباطات) سياسات البنك الدولي، بأجندات أمريكية معينة: ـ سياسية واقتصادية ـ وعندما سقط الرجل الحليف، بل قبيل أن يسقط: تفنن الاعلام السياسي الأمريكي في وصمه بالدكتاتورية والجهل والفساد وإساءة استعمال السلطة.. وَيْ.. وَيْ.. وَيْ.. الآن تتهمونه بذلك، وقد علمتم من قبل أنها رذائل اتسم بها حكمه عبر أربعين عاما تقريبا، علمتموها فالتزمتم صمت الحجارة تجاهها!!.. إن هذا (النفاق السياسي) الهائل إنما هو (مجرد تسويغ) لنظرية التخلي عن الحلفاء.. الدليل الثالث على هذه النظرية: رحيل برويز مشرف عن حكم باكستان، وذلك بعد أن (تيقن) من تخلي حلفائه الأمريكان عنه، وإلا فإنه لم يكن يفكر في الاستقالة، بل خطط لكي يحكم باكستان سنوات عديدة مقبلة!.. وها هنا ملحظ جد مهم وهو: ان التخلي ليس بالضرورة أن يتم خلال سنة أو سنتين ـ مثلا ـ بل وكد التاريخ السياسي: ان التخلي الفاجع يحصل بعد عقود من التحالف والصداقة!!

كما حدث للشاه وسوهارتو اللذين ظل كل منهما في الحكم ما يقارب أربعة عقود من الزمن.. والملحظ الآخر هو: ان هؤلاء الرؤساء الثلاثة كانوا يحكمون دولا إسلامية!

3 ـ العبرة الثالثة: ان لمشرف أخطاءه الذاتية بلا ريب، ولكنه كان ـ من جانب آخر ـ (ضحية) للسياسة الأمريكية الخاطئة المتخبطة. نعم. كان ضحية لأنه استجاب لهذه السياسة الحمقاء باندفاع تدنت فيه حظوظ العقلانية ومناسيبها وحساباتها.. وهذا بدهي، فإدارة تنزل أفدح الأضرار بمصالحها وأمنها وسمعة بلادها لن تكون ناجحة في نصح باكستان ورئيسها. فمستحيل أن يجود المحروم بما حرم منه.. فبدفع من هذه السياسات الخرقاء دخلت باكستان في ما يشبه الحرب الأهلية في المدن وبين القبائل وعلى الحدود. وفي ظل أداء مشرف المعجون في الأجندة الأمريكية: انتقلت فوضى الارهاب من أفغانستان الى باكستان.. وبقية المسلسل معروفة، وهو مسلسل كانت استقالة مشرف نهايته البائسة (العبرة هنا هي: استمرار التعامل مع أمريكا وفق رؤية محسوبة وفي غير تبعية، مع النصح الفاعل لها نصحا ينفع الطرفين).

4 ـ العبرة الرابعة: إعادة النظر ـ لأجل التصحيح ـ في مسألة (المكافحة المشتركة للإرهاب).. فنحن ضد هذا البلاء أو الوباء الذي فتح على الإسلام وأهله أبوابا من الشر والفتن نرجو أن تكون لها نهاية. ونحن ـ من ثم ـ مع كل جهد إسلامي أو انساني ينزع الى إيصاد ولو باب من أبواب الشر هذه. فهذا الجهد يدخل في نطاق (التعاون الإنساني العام على صيانة دم الإنسان وحرماته: أمنه واستقراره ومعايشه وحضارته).. هذه حقيقة لا ينبغي أن ينشأ حولها جدل. بيد ان المنطق العملي والأخلاقي يوجب: ان يواكب هذه الحقيقة: حقيقة أخرى وهي: ان الطريقة الأمريكية في مكافحة الإرهاب لا يمكن أن توصف بأنها حاذقة. فالوقائع على الأرض تنطق بالأرقام التي تقول: إن هذه الطريقة زادت الإرهاب كما، وعقّدته نوعا، ولقد شهد بذلك مراكز بحوث في أوربا.. وفي أمريكا ذاتها.. ومن هنا، فإن العبرة في هذا المجال تتمثل في مفهومين رئيسين:

1 ـ المفهوم الأول هو: ضرورة (تعريف الإرهاب) بما يحرره من الأخطاء والمفاهيم التي توسع نطاق الإرهاب، مثل: اتهام الإسلام ذاته، والمسلمين جميعا، والمقاومة المشروعة للمحتل: بالإرهاب.

2 ـ المفهوم الثاني هو: أن يكون (الأمن الوطني لكل دولة) هو: مقياس مكافحتها للإرهاب.. فمن المثالية الخيالية، بل من فقدان الاحساس بالمصلحة الوطنية العليا: التضحية بالأمن الوطني، وتماسك الجبهة الداخلية في سبيل مجاملة أمريكا أو غيرها ـ في هذا المجال ـ: بتبني شعاراتها ومفاهيمها التي قد تتناقض مع الأمن الوطني لهذه الدولة أو تلك.. بدليل انه حين اختل هذا المقياس في يد برويز مشرف: كاد أن يخرب بلده من أجل الأخذ غير المبصر بالأجندة الأمريكية، على حين أن (الأنانية الوطنية) المشروعة تقضي بغير ذلك، ونعني بهذه الأنانية: تقديم المصلحة الوطنية أولا وثانيا وعاشرا على أي اعتبار آخر.