تعددت الاستقالات والمصير واحد

TT

الاستقالة احيانا ما تكون «باراشوت» يقفز بها الزعيم، كالرئيس الباكستاني براويز مشرف، من طائرة اشعلتها نيران المحاسبة الدستورية.

وكانت الاستقالة للزعيمة البريطانية مارغريت ثاتشر «قارب النجاة» قبل ان يدفعها البحارة والمسافرون لأمواج المحيط في نوفمبر 1990.

التحول من صاحب الأمر والنهي الى مواطن عادي يقف في طابور المطار امر شاق على النفس، خاصة في بلدان يساوي فيها القانون بين الجميع. دموع السيدة الحديدية مودعة 10 داوننج ستريت اثبت ان السعي للمنصب غريزة انسانية اساسية. فالبكاء رد فعل غرزيتها الانثوية لاعقلها الفولاذي الذي هز اعصاب جنرالات الجيش والهب برود الساسة الاشداء لـ11 عاما.

استقالة «المشنقة» ـ السياسية ـ نوع يقتصر فقط على الديموقراطيات الغربية التي لا تقبل للاخطاء ثمنا اقل من دفن مستقبل الزعيم السياسي عند نفاذ خياراته.

الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون (1913 ـ 1994) استقال عام 1975 بعد ان ضبطته الواشنطن بوست متلبسا بالكذب في فضيحة ووترغيت بالتجسس على خصومه في الانتخابات.

وهناك استقالات «الهاريكاري» أو عقاب الرجل الشريف لنفسه.

استقالة رئيس الوزراء الراحل انتوني ايدن (1897 ـ 1997) بعد عامين فقط في داوننج ستريت 1957 اتت بها رياح سيالوماسية غير ما اشتهت سفينته الاستراتيجية التي ابحرت لاحتواء تهديد اثبت التاريخ مدى خطورته عالميا.

فشل اسلوبه العسكري في تحجيم اطماع الكولونيل جمال عبد الناصر (1918 ـ 1970) التي اجهزت على الديموقراطية والرخاء في مصر، وألهبت المنطقة بالحروب والاضطرابات والفوضى.

بعكس نيكسون، لم يكن ايدن، المنتخب ديموقراطيا مخادعا، فكانت استقالته «هاريكاريا» سياسيا بعد جرح كرامته كجنتلمان محافظ تصدي، بحرب السويس، لديكتاتورية شمولية، غير منتخبة، ظهرت سبع سنوات فقط بعد دحر النازية.

دافع ايدن عن مصالح بلاده، والقانون الدولي، وحقوق ارامل، مصريات وغير مصريات، استثمرت معاشاتهن في اسهم قناة السويس، وعن حقوق مصريين اثبتت الايام صحة قلقهم على مستقبل الامة المصرية.

ايدن خدعه الفرنسيون بتنسيقهم مع الاسرائيلين، بينما طعن الرئيس الامريكي داويت ايزنهاور (1890 ـ 1969) الحليف البريطاني في الظهر واختار دعم ديكتاتور اغتصب السلطة بانقلاب غير مشروع، رغم جعجعة الامريكيين عن الديموقراطية. طمع ايزنهاور في الاستيلاء على منطقة النفوذ البريطاني بدعم عبد الناصر واطعامه بالنقطة الرابعة؛ وشمت التاريخ في سنمار واشنطن فقد عض عبد الناصر اليد الامريكية وارتمى في احضان موسكو.

هناك استقالات مبدئية، بعضها وسيلة ميكيافيللية لغاية ابعد، واخرى عديمة المفعول، كاستقالة اللواء محمد نجيب (1901 ـ 1984) اول رئيس لمصر بعد انقلاب 1952. خدعه «اولاده» الضباط، بعد عام من رئاسته، بقهقتهم ساخرين من سذاجته عندما ذكرهم بتعهد الجيش بالعودة للثكنات بعد نجاح الانقلاب وترك الحكم للمؤسسات المدنية الدستورية في انتخابات برلمانية عودة لاستقرار الديموقراطية البرلمانية التعددية التي اسستها الحكومة الوطنية بزعامة سعد باشا زغلول (1859 ـ 1927) وفق دستور 1923 (المعروف بالدستور باشا).

احتار المؤرخون في تفسير استقالة نجيب في نوفمبر 1954 ليعيش فقيرا اسير حصار ثلاثة عقود من اكاذيب النظام الستاليني ضده؛ بدلا من التصدي للبكباشي عبد الناصر وطغمته المجهولين شعبيا آنذاك.

وبالاسلوب النجيبي استقالت وزيرة شؤون التنمية الدولية البريطانية كلير شورت في مايو 2003 احتجاجا على خوض حكومة توني بلير ـ وكانت عضوا فيها ـ حرب اطاحة الديكتاتور صدام حسين (1937 ـ 2006) شهرين بعد نشوبها.

اقتصر عمر «دوشة» استقالتها على ثلاث نشرات اخبارية، وتصفيق حنجوري من صحف اليسار.

بالعكس كانت استقالة وزير الخارجية الراحل روبين كوك (1946 ـ 2005) مدوية في رنينها في البرلمان، في مارس 2003 من حكومة ستخوض الحرب في العراق بعد اربعة ايام. هز دوي رفض كوك سياسة تخالف ضميره مجلس العموم فأصدر قانونا يمنع تكرار الحكومة خوض حرب من دون تصويت مسبق من البرلمان، والانجاز منقوش على شاهد قبر كوك في اسكتلندا.

آخر الاستقالات المبدئية كانت في الربيع لوزير داخلية الظل المحافظ دافيد دافيز من عضوية مجلس العموم لينبه الشعب لتوغل حكومة العمال في مستنقع تهديد الحريات المدنية. قرر دافيز اعادة خوض الانتخابات في دائرته متحديا رئيس الوزراء جوردون براون بترشيح منافس من الحكومة ليكون التصويت استفتاء على الادعاء بدعم الراي العام لقانون مكافحة الارهاب. تراجعت حكومة براون جبنا عن قبول التحدي، فلم ترشح احدا ليسجل التاريخ كذب ادعائتها.

استقالة وزير الخارجية السابق السير جيفري هاو كنائب رئيس وزراء من حكومة ثاتشر غيرت التاريخ المعاصر، فقد استقال على مرحلتين، بميكيافيللية محسوبة في بداية نوفمبر 1990 من الوزارة بسبب «خلافات في الاسلوب» وترك الصحافة تخمن وتدقق بحثا، في تدخل مكتب رئيس الوزراء في السياسة الخارجية.

انتظر عشرة ايام اختمر فيها شعور الغضب من ثاتشر في صفوف الحزب ليستقيل كزعيم للكتلة البرلمانية، 13 نوفمبر، في خطبة مدوية في مجلس العموم مشبها ثاتشر بكابتن فريق كريكيت يسرق المضرب من المنازل الاساسي، فدق المسمار الأخير في نعشها السياسي الذي دفن بعد تسع ايام فقط. خليفة ثاتشر، جون ميجور، وظف كلمة الاستقالة ميكيافيلليا عام 1955 للتخلص من منافسين سربوا للصحافة خطتهم للتخلص منه. سبقهم ميجور بتحد علني بوعد الاستقالة اذا تقدموا بسياسة بديلة يصوت عليها الحزب، او يخرسوا للابد؛ فدوى صمتهم اذان التاريخ الذي نسيهم.

وهناك استقالة «الاستعباط» التي يقدمها الزعيم، ميكافيلليا، لحاجة لا علاقة لها بمصلحة الوطن.

صدام عرض استقالته على مجلس الوزراء «لإنهاء الحرب» التي بداها مع ايران، بعد ان شخصنها اية الله الخميني (1902 ـ 1989). طأطأ الوزراء رؤسهم صامتين عدا وزير الصحة، فابتسم لحظة لقاء عينيه بعيني صدام، فاصطحبه الأخير الى غرفة مجاورة سمع منها صوت طلقة واحدة، ليعود الزعيم شاهرا مسدسه، للمجلس رافضا الاستقالة بهتافات الروح والدم.

استقالة عبد الناصر 1967 عقب هزيمته في حرب بدأها بحصار ميناء إسرائيل الجنوبي الوحيد وطرد مراقبي الهدنة الدوليين كانت نموذجا «للاستعباط» الميكيافيللي. اعلن في التلفزيون تحمله نتائج الهزيمة، بينما كان قوميسرات الاتحاد الاشتراكي، من الاسكندرية الى اسوان، يعدون وسائل النقل لحشد كوادرهم والعاملين ـ باوفرتايم اضافي وترقيات ـ لرفض الاستقالة تظاهرا معلنين الكفاح ضد «السلبيين ودعاة الهزيمة» من الديموقراطيين والقانونين والاصلاحيين الوطنيين، الذين صدقوا ان ديكتاتورا غير منتخب سيدفع ثمن اخطائه.

الباكستانيون، على الاقل، اصلحوا بيد الاستقالة نتائج انقلاب جاء بالعسكري رئيسا، ولم ينتظروا تدخل عزرائيل لاصلاح خطأ تاريخي ارتكب في حق الوطن!