مواجهة «غير مباشرة» بين سوريا وإسرائيل عبر جورجيا

TT

كان الأمر الطبيعي أن تظهر زيارة الرئيس بشار الأسد إلى موسكو، على أنها زيارة تسعى إلى توسيع وتعميق العلاقات الثنائية بين البلدين، ولكن شاءت الظروف والتطورات على الأرض، أن تضع الزيارة في إطار أوسع مدى، وأن تطرح عليها أسئلة ذات أبعاد استراتيجية.

لقد كان انفجار الأوضاع في جورجيا، إعلانا روسيا بأن سياسة الهدوء والصمت في مواجهة الحصار الأميركي لروسيا، وتهديد أمنها إلى درجة الاقتراب من حدودها، قد انتهت. وهكذا دشنت روسيا عبر أحداث جورجيا سياسة جديدة صاخبة، عنوانها الاستعداد لمواجهة وصد التحرك الأميركي حول حدودها. وظهر موقف روسي جديد يرفض مواصلة العمل الأميركي لمد نفوذ حلف الأطلسي، ويرفض بشكل محدد مواصلة العمل على ضم دول شرق اوروبا، أو دول الاتحاد السوفياتي السابق، إلى هذا الحلف، بسبب ما يعنيه من حصار سياسي وعسكري لروسيا، يخرجها من دائرة الدول القادرة على الفعل في السياسة العالمية. وظهر أيضا موقف روسي جديد وصاخب، يرفض القبول بسياسة زرع الدروع الصاروخية في الدول المحيطة بروسيا، لأنها تعتبر ذلك تهديدا مباشرا لها، رافضة بذلك كل عمليات الدعاية التي تقول بأن هدف زرع الدروع هو من أجل صد الأخطار القادمة من دول مثل ايران وكوريا.

في هذه اللحظة الحاسمة، التي تؤشر إلى مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، تحاول أن تعترض طريق الهيمنة الأميركية، جاءت زيارة الرئيس بشار الأسد إلى روسيا، وكان طبيعيا أن يدفعها هذا الوضع المستجد إلى أن تصبح زيارة ذات بعد دولي، وأن تحمل في طياتها أبعاد تحالف روسي ـ سوري ضد السياسة الأميركية العالمية، وهي أبعاد تعطي روسيا فرصة تعميق نفوذها في المنطقة العربية، وتعطي لسوريا تحالفا دوليا يساعدها في مواجهة الضغوط الأميركية.

وإذا كانت زيارات الرئيس الأسد السابقة إلى موسكو، قد أسفرت عن بحث في تزويد سوريا بسلاح روسي متطور، فإن الوضع الجديد يُخرج موضوع السلاح من إطار الصفقات، ومن إطار البيع والشراء، إلى إطار استراتيجي، فالسلاح هذه المرة، سيتم بيعه وشراؤه في أجواء صراع دولي، وسيكون له بالضرورة هذا المعنى الجديد. والسلاح هذه المرة قد لا يقتصر على البيع والشراء، وقد يتطور إلى علاقات ذات بعد عسكري تسهل على الأسطول الروسي مثلا أن يوجد في البحر الأبيض المتوسط بفعالية، وهنا تكون سوريا بلدا مشاركا، وليس بلدا مشتريا فحسب، وستدفعها قراراتها نحو وضع دولي جديد. ولا بد من انتظار هذا النوع من القرارات السورية، لمعرفة المدى الذي ستذهب إليه، حسب تقديرها لظروفها ولظروف الوضع العربي. وإذا كان وضع سوريا السابق يدفعها إلى أن «تأخذ» من موسكو، فإن الوضع الدولي يعرض عليها الآن أن «تعطي» أيضا. وهذا أمر يحتاج إلى مراقبة متأنية.

وقد أبرزت أحداث جورجيا، بعدا آخر للمسألة ذا مساس مباشر بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، إذ ظهر في هذه الأحداث دور إسرائيلي بارز في تسليح جورجيا، وفي تدريب جيشها، وأصبحت إسرائيل بذلك شريكا أساسيا، في ما تعتبره روسيا تهديدا لأمنها. وهو أمر سيكون له أثره في العلاقات الثنائية بين روسيا وإسرائيل من جهة، وسيكون له أثره في بروز دور روسي داعم للطرف العربي ضد سياسة إسرائيل. وحين تتم زيارة الرئيس الأسد لموسكو في لحظة بروز هذه التداعيات الروسية ـ الإسرائيلية، فإن سوريا ستكون أول من يقطف ثمار ذلك، وسيكون قطف الثمار دعما سياسيا لسوريا، وتقديم غطاء دولي لها، ينهي مرحلة انفراد إسرائيل بالاستفادة من هذا النوع من الغطاء الدولي.

لقد أسفر هذا الوضع عن نقاش صاخب في إسرائيل حول العلاقة مع جورجيا، وامتلأت الصحف الإسرائيلية في الأسبوع الماضي بعشرات المقالات، التي تقترح تجميد العلاقات العسكرية مع جورجيا، أو تناقش الخطأ الفادح الذي تم ارتكابه بقرار بدء هذا النوع من العلاقات معها. ولكن هذا النقاش الذي يحاول أن يظهر الأمر على أنه قرار إسرائيلي بحت، يتجاهل، وهذا أمر طبيعي، أن قرار إمداد جورجيا بالسلاح، ليس قرارا إسرائيليا، إنما هو قرار أميركي أولا وأخيرا، فالولايات المتحدة الأميركية هي التي تمد إسرائيل

بالقروض، وبالأبحاث العلمية حول الأسلحة، وهي التي تزودها حتى بالعلماء من حملة الجنسيتين الأميركية والإسرائيلية، وذلك من أجل هدفين: الأول هو أن تتولى إسرائيل إنتاج سلاح أميركي، وبيع هذا السلاح الأميركي لدول أخرى، حين تكون الاعتبارات السياسية غير مناسبة لواشنطن في أن تظهر كبائع مباشر للسلاح. والهدف الثاني هو أن تؤدي هذه العمليات التجارية الضخمة إلى مساعدة ودعم الاقتصاد الإسرائيلي. ولكن.. وبغض النظر عن كل هذه الأسباب، فإن إسرائيل تظهر هنا بوضوح كأداة ضاربة من أدوات السياسة الأميركية. تظهر هنا بوضوح كدولة تؤدي «وظيفة» في خدمة السياسة الأميركية، ولا تستطيع إلا أن تؤدي هذه الوظيفة حين يطلب منها ذلك.

لقد شهدنا نحن العرب، هذا الدور الوظيفي لإسرائيل في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وعانينا منه طويلا، ولكن الجديد في الأمر، هو أننا نشهد الآن دورا وظيفيا لإسرائيل، يمتد إلى الساحة الدولية. وهذا مؤشر خطر، يحتاج إلى أن يدرس عربيا، لأنه قد يتكرر، وقد يتكرر في منطقتنا بشكل خاص. ولو دققنا النظر، فإننا سنجد هذا الدور الوظيفي الإسرائيلي موجود في منطقتنا العربية منذ سنوات. موجود في جنوب السودان

عبر تشجيع التمرد المسلح ضد الحكومات السودانية المتعاقبة. وموجود في إثيوبيا وإريتريا عبر طموحات التمدد العسكري نحو البحر الأحمر. وموجود في العراق الآن عبر سياسة قتل العلماء العراقيين، وموجود في شمال العراق عبر تشجيع الأكراد على الانفصال وتشكيل دولة مستقلة متحالفة مع إسرائيل. وبالطبع فإن هذه الأدوار الإسرائيلية، ليست بعيدة، ولم تكن أبدا بعيدة، عن توجيهات السياسة الأميركية. صحيح أن إسرائيل تشتط أحيانا، وتحاول أن تستفيد من التشجيع الأميركي لتحصد مكاسب لها فقط، ولكن الدبلوماسية الأميركية غالبا ما تتقدم هنا لتلجمها. إن اللجم الأميركي لا يعني الاعتراض على ما تفعله إسرائيل، بل يعني فقط أن عليها أن تبقى في إطار السياسات المرسومة وأن لا تتجاوزها.

ثمة في هذا الأمر كله، بعد عربي شامل لا بد من مراقبته وملاحظته والاستفادة منه. فالوضع الدولي يدخل في مرحلة توازنات جديدة، تنخفض فيها درجة الهيمنة الأميركية على السياسة الدولية. ومن المحتمل أيضا أن تنخفض في مجال الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وهنا يمكن للطرف العربي أن يبلور تكتيكات سياسية جديدة، تجاه أميركا

للابتعاد عنها قليلا، وتجاه روسيا للاقتراب منها قليلا، وذلك من أجل المصلحة العربية وحدها، ومن أجل تحسين فرص المساومة السياسية العربية.

لقد وضعت الظروف سوريا في موضع الخطوة الأولى. ومن المفيد أن تكون هناك خطوات عربية تالية.