الأميبية السياسية

TT

لفت النظر إصدار واحد واربعين حزباً موريتانياً، بياناً بتأييد الانقلاب، لا أتوقف عند مفارقة ان احزابا هي عماد النظام الديمقراطي، تؤيد انقلابا، بل الى عدد واحد واربعين حزباً، والذي لا بد ان يكون بجانبه عدد اخر من الاحزاب التي ترفض الانقلاب، وعلى رأسها رئيس البرلمان، ومعه اشترك في هذا الموقف اثنان وثلاثون نائباً، ولا بد ايضاً ان يكون هناك عدد من الاحزاب فضلت ان لا يكون لها موقف او اتخذت الحياد أو فضلت المنطقة الرمادية، فاجمعوا معاً هذه الاحزاب وقسموها على ثلاثة ملايين نسمة هم سكان موريتانيا وعلى زمن وتواضع تجربتها «الديمقراطية».

في لبنان لم تعد الاحزاب تتوزع على يمين او يسار، أو محافظ وتقدمي، أو الى أحزاب قومية واخرى وطنية بل باتت تتوزع على خارطة الثماني عشر طائفة، وانتقلت التنويعات الى داخل الطائفة وقسمت احزابها وشخصياتها السياسية على خطي الموالاة للحكومة والمعارضة لها، فبات يندر وجود احزاب عابرة لهذه الطوائف، انه ارتداد نكوصي استلزمه او هو من ثمرته بروز وسيادة الهويات الفرعية على الهوية الوطنية، وانخفاض في انشغالات الانسان الحياتية لمصلحة هوس وتشرنق فئوي.

هذان الميلان، التعددية المفرطة والتوزع الاثنو ـ طائفي المصاحب بانعدام التمايز، وسما ايضاً الساحة السياسية العراقية، فقد سجل لخوض انتخابات مجالس المحافظات القادمة 502 كيان سياسي و17 ائتلاف، فتصوروا على الناخب ان يعرف ويمايز بين هذا الكم الهائل، ثم حتى لو انه بالنتيجة ان اصحاب الحظوظ في الفوز هم عدد قليل ولكن ايضاً هذا التشرذم سيصعب الادارة والحكم، وتجربة البرلمان الحالي ماثلة، التي لم تأخذ بقاعدة الاغلبية واصرت على قاعدة التوافق وحكومات الوحدة الوطنية، فكانت النتيجة شللا في الأداء وإعاقة دائمة وعدم تمييز ما بين من هو في السلطة والمعارض لها، إذ حلا للبعض ان يمارس الدورين ويتمتع بامتيازات الحاكم وحرية المعارض، الملفت في لبنان تسمية حق الاعتراض للمعارضة بالثلث «المعطل» وكأنما هكذا دول بعد خراب الحروب وتفويت فرص النمو وتمزق النسيج المجتمعي بحاجة الى تعطيل، وهي اصعاد للطوائف لتستعير حق النقض الممنوح للخمس الكبار في مجلس الامن، وهذا الحق الفيتو منح الى هؤلاء الخمس باعتبار انهم القادرون على احلال السلام وعلى شن الحروب، فالمقاربة اذن واردة بمنح مثل هذا الحق للطوائف او المكونات القادرة على تحقيق السلم الاهلي او على اشاعة الاقتتال. الدول ذات المكونات المجتمعية المتعددة والتي اخذت بقاعدة التوافق ونجحت بها، كونها ضيقت هذه القاعدة لما يمس الكيان المجتمعي، وايضاً ان جهاز الدولة فيها راسخ وظل بمؤسساته وببيرقراطيته بعيداً عنها، وثالثاً كانت المواطنة هي الجامع ولها الاعلوية، هذه المعايير الثلاثة لا شك انها خرقت وأهملت ولم يؤخذ بها في التجربة اللبنانية والعراقية في ممارستها على خطى ذلك.

الكارثة تصبح مكتملة عندما يترافق الاصرار على العمل بقاعدة التوافق مع تشرذم وتعدد سياسي مفرط، وهذا التعدد للاحزاب وللقوى السياسية المفرط هو ظاهرة لازمت الديمقراطيات في منطقتنا، أفرزتها طبيعة النظم السياسية وحداثة التجربة وانعدام التراكم ونوعية النظم الانتخابية وسلوك ووعي الناخبين، فبدل نظام الحزبين اللذين يتناوبان الحياة السياسية في كثير من دول العالم او احزاب قليلة قوية او التصحيح الذي جرى في عدد من الدول الديمقراطية المعروفة في العالم عندما تحولت الى نظم انتخابية وسياسية لا تلجئها الى الحكومات الائتلافية القلقة والهشة، فلم نستفد من التجارب وفضلنا اكتشاف قاطرة البخار، ربما مرد ذلك ايضاً الى انه أقرب الى شخصيتنا الميالة الى الزعامة وعندما تضيق بها تخلق زعامات متعددة ومتوازية، وايضاً ينتج ذلك من عدم القدرة على احتواء ومواءمة اختلاف الرؤى فيكون الانقسام حتمياً عند اي مفترق طرق. ثم وايضاً، ان المال والتأثير الخارجي غالباً ما كان مشجعاً على ايجاد وخلق كتل سياسية واحداث انشطارات دائمة تبحث على الاستقواء واستدراج الدعم السياسي والمادي، والملاحظ ان قانون الانتخابات موضع الجدل لم يحفل بوضع ضوابط على الانفاق على الدعاية الانتخابية او في التصريح عن مصادر التمويل، وهذا مما يبقي المال الاجنبي واجنداته فاعلة، والتي يبدو ان العرف تواتر على قبولهما في الحالتين اللبنانية والعراقية .

بديهياً ان التعدد يستوجبه ويستلزمه التمايز وإلا ما الضرورة له؟ لكن هذه التكاثرات «الأميبية» للأحزاب في ديمقراطياتنا لا تنم عن اي تمايز وحتى يصعب تمييز الاحزاب وفقاً للتصنيفات المعروفة، بل ان التمايز بات يضعف بين احزاب قديمة وتأريخية وليس بين تلك التي تنشأ لاغراض انتخابية، فحزب الدعوة والذي هو من الاحزاب الاسلامية العريقة في العراق والذي مضى عليه نصف قرن، هو ثلاث دعوات بالكاد للمتخصص ان يتميز الاختلاف في المتبنيات بينها، فكيف بالناخب، الحزبان الكرديان اللذان نظما الحياة السياسية الكردية، الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستانيان، بالكاد تتبين اعضاء البرلمان الى اي من الحزبيين ينتمون، ولم يلحظ أي موقف طيلة عمل التجربة الديمقراطية في العراق فيه تمايز الحزبان تجاه مسألة اقتصادية او اجتماعية او سياسية رغم ان خلفيتهم الايديلوجية مختلفة، فالاتحاد الوطني يفترض انه حزب يساري ذو ميول اشتراكية، بل انني أزعم وكثيرون مثلي، أننا نسينا انه حزب اشتراكي ولم نذكر ذلك الا بعد انتخاب زعيمه الرئيس الطالباني نائباً لرئيس الاشتراكية الدولية، ولفت المصافحة الشهيرة للحدث، فاليسار يقدم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على الحقوق السياسية ويمنح الاولوية للمطالب الطبقية على المطالب القومية الاثنية، والاتحاد الوطني لا يظل من يساريته شيء وفق هذين المعيارين.

إذن فتضخم عدد الاحزاب واختزانها الدائم لقابلية الانشطار هي ليست وصفة لحياة سياسية صحية، ولم تفض الى اداء حكومي وسياسي فاعل، وبافتقارها للتمايز، فهي لا تعطي للمواطن فرصة في الخيارات، فلم ذلك اذن؟ انها ربما طريق منطقتنا الخاص في الديمقراطية .