غل ـ أربكان.. العفو من شيم الكبار

TT

نجم الدين أربكان أب فكر الإسلام السياسي في التاريخ المعاصر لتركيا. تجربة سياسية تبدأ في منتصف الستينات تتبعها ملاحقات وتهديدات وحملات تشهير واعتقالات وسجن. دخل خلال أكثر من نصف قرن في أكثر من مواجهة مع الكثير من القوى والمؤسسات العسكرية والعلمانية المتشددة كلفته حظر الأحزاب الخمسة التي أسسها. شارك  في أكثر من ائتلاف حكومي مع اليساريين واليمينيين على السواء تحت شعار  تعزيز رقعة انتشار الإسلاميين في مراكز الإدارة والحكم. بذل الكثير من الجهد على طريق إقامة منظمة القوى العملاقة الاقتصادية الثمانية في العالم الاسلامي حلمه الأكبر في منافسة مشاريع الهيمنة الغربية الاقتصادية والمالية.

كان دائما نقطة انطلاق المواجهة المفتوحة مع الصهيونية والماسونية في العالم الهدف الأول في برامجه ومواقفه وطروحاته مما جعله بالمقابل القلعة الأهم الواجب إسقاطها وتدميرها في حرب الرد والتصدي.  

فهو قوة الدفع الأساسية في مشروع إعادة إحياء العلاقات العربية ـ التركية وتعزيزها وفي طليعة المدافعين عن فلسطين واستعادتها جنبا الى جنب مع عاصمتها القدس. 

تسلم منصب رئيس الوزراء في منتصف التسعينات ضمن ائتلاف حكومي مع حزب الطريق القويم اليميني الذي كلفه الكثير من الخسائر والأضرار عبر مواجهة علنية ومفتوحة شنت عليه وعلى القوى الإسلامية من قبل خصومه السياسيين تحت غطاء حماية النظام، وأجبرته بالتالي على التنحي والتعرض للمطاردة القانونية والمنع من ممارسة العمل السياسي لسنوات طويلة.

تلقى الكثير من الضربات وبمختلف الأنواع والأحجام والعيارات من أصدقائه قبل خصومه كان آخرها محاكمته في قضية «الترليون المفقود» بتهمة التزوير وسوء التصرف بأموال حزب «الرفاه» وقرار المحكمة التركية بوضعه 11 شهرا في الإقامة الجبرية في منزله الصيفي الذي اختاره هو على شواطئ بحر ايجه.

وفجأة يدخل الرئيس التركي عبد الله غل على الخط وينهي معاناة أربكان هذه التي استمرت 3 أشهر، مستخدما صلاحياته الدستورية في إصدار قرار العفو عن أربكان البالغ من العمر 84 عاما ويتحرك على كرسي نقال ويعالج بسبب أكثر من مرض مزمن. غل بخطوته هذه التي لاقت الترحيب والدعم في صفوف الكثيرين قابلتها أيضا موجات اعتراض من العلمانيين وقيادات حزب الشعب الجمهوري التي عملت على إظهار الرئيس التركي كمن يكيل بمكيالين ويطلق سراح أربكان، متجاهلا أنه هو الآخر بين الشخصيات التي وردت اسماؤهم في هذا الملف وأنه يستفيد من الحصانة البرلمانية والرئاسية لعدم الوقوف أمام القضاء مما دفع برئاسة الجمهورية لإصدار بيان شديد اللهجة حول الأكاذيب والمزاعم الملفقة التي يحاول البعض اللجوء اليها للنيل من موقع الرئاسة.

غل الذي قال إن قرار العفو يحمل بعدا إنسانيا وإن وضع أربكان الصحي والتقارير الطبية بهذا الشأن كانت وراء القرار وان العفو عن أربكان لا يعني التدخل في ملف الدعوى ومضمونها ومسارها، أثبت رغم كل شيء التزامه بماضيه السياسي أولا، لكنه أثبت قبل كل ذلك أنه لن يكون متنكرا للجميل ومتجاهلا لكل دروس ونصائح معلمه أربكان، معيدا اليه اسمه التاريخي ومفشلا كل محاولات الإقصاء والتهميش والمحاصرة التي تعرض لها.

غل ببادرته هذه أعطى، ولو متأخرا بعض الشيء، دروسا في الوفاء وأنه رغم كل الانتقادات الشديدة التي تعرض لها وجعلته على لائحة «المتمردين» المتخلين عن أستاذهم في أحوج الأيام، لن يكون ناكرا  للجميل وأن اللحم لا ينسلخ بهذه السهولة عن العظم كما يقول المثل التركي، فكلاهما شخصيتان بخلفية وجذور إسلامية وغرفا من النبع ذاته رغم الفراق الذي وقع قبل 6 سنوات بسبب خلافات في الأسلوب والنهج والممارسة.

أما أربكان فهو وفي أول ظهور علني له قبل أيام خلال توجهه لأداء فريضة صلاة الجمعة وسط مئات الأنصار والمحازبين أعطى اشارة واضحة أنه لن يغير في أسلوبه وسياسته ومواقفه ولن يتردد في قول ما يرى فيه فائدة وضرورة للشعب التركي والعالم الاسلامي مبادرا الى التذكير بأنه «لو نجح العثمانيون في دخول فيينا وتحطيم أسوارها لكانت أوروبا كلها مسلمة اليوم»، وشاكرا المولى وأصدقاءه في العالم الاسلامي الذين وقفوا الى جانبه طيلة محنته، ثم خص الرئيس غل بشكره الخاص على ما أبداه من نضوج من خلال بادرته هذه، فاتحا الباب على مصراعيه لمشروع مصارحة ومصارحة تاريخية بين «الإخوة الأعداء» في حزبي العدالة والتنمية والسعادة.

الضوء الأخضر جاء تحديدا عندما سئل أربكان عما إذا كان قد عفا هو الآخر عنهم (المقصود هنا رجب طيب أردوغان وعبد الله غل وبولند ارينش) الثلاثي الأبرز في العدالة والتنمية، فقال: هم دائما إخوتنا وطلبتنا وأنصارنا. وذلك رغم انه كان قبل سنوات يروي قصة الشقيقين هابيل وقابيل على مسامع أنصاره ومحازبيه. من هنا فان وسطاء الخير في القواعد الإسلامية التركية يعرفون تماما كما يعرف غيرهم أن حالة أربكان الصحية لن تسمح له العودة الى ممارسة العمل السياسي اليومي، وهم يعرفون أيضا أن كثيرين هم الذين لن يرحبوا بهذه المصالحة، ولذا فهم لن يوفروا جهدا لجمع الشمل وإزالة الغبن.

أربكان الذي رفض قبل سنوات اقتراح الرئيس التركي السابق، احمد نجدت سزر، بالعفو عنه قبل أن يعطي غل هذه الفرصة، وهي رسالة تحمل أكثر من بعد ومعنى على طريق نسيان الماضي وفتح صفحة بيضاء جديدة من العلاقات بين ابرز القيادات الإسلامية التركية، وربما لن يفوت أردوغان مثل هذه المناسبة وهو سيقصد منزل أربكان لتهنئته بخروجه من مقر إقامته الإلزامي حتى ولو لم تكن الرسالة تحمل مضمون العودة الى بيت الطاعة.

* كاتب وأكاديمي تركي