ناشطون

TT

لفت نظري في خبر السفينتين المبحرتين من لارنكا إلى غزة، تحملان معهما المساعدات الإنسانية لكسر الحصار، استخدام نشرات الأخبار لصفة «ناشطين» لوصف الأربعين راكباً القادمين رغم المخاطر التي تحيق بهم للتعبير عن رفضهم لجريمة الحصار الوحشي الذي تفرضه إسرائيل، التي تمثل آخر استعمار عنصري في القرن الواحد والعشرين، على المدنيين العرب. وقد أضافت بعض نشرات الأخبار، وإن يكن على استحياء صفة «ناشطين من أجل حقوق الإنسان». ومصدر استغرابي هو أن صفة «ناشط» قد صاغتها وروجتها واستخدمتها في السنوات الأخيرة أجهزة الإعلام الإسرائيلية لتبرير جرائم الإبادة التي ترتكبها القوات الإسرائيلية من قتل ومجازر متواصلة ضد المدنيين الفلسطينيين منذ ستين عاماً، ولتبرير اغتيال وسجن آخرين واختطاف مسؤولين ومفكرين وعلماء. وكان الافتراض السياسي لدى استخدام مثل هذه الصفة من قبل القاتل لوصف ضحيته هو أن الضحية ناشطة في أعمال غير مسموحة وغير قانونية، وربما غير شرعية، آخذين بعين الاعتبار طبعاً أن مقاومة الاحتلال البغيض تعتبر أمراً غير شرعي في نظر المحتلين. ولا أعلم اليوم لماذا لم يبادر الكتاب والإعلاميون العرب المعنيون بقضايا أمتهم إلى إسباغ الصفات التي يرونها مناسبة بدلاً عن كلمة ناشط، كأن يحرروا الخبر الذي تبثه الدوائر الصهيونية ليصبح «مقاوماً ضد الظلم والاحتلال» مثلاً، أو «مكافحاً من أجل الحرية والكرامة»، أو «مناضلاً من أجل استعادة حقوقه المشروعة». أم أن الاستكانة إلى ما يصممه ويرسمه الأعداء قد وصلت حد الاستسلام إلى اللغة التي يستخدمون في وصف تفاصيل قضايانا بدون تغيير أو تبديل يُذكر. والأهمية التي أوليها لتغيير أو تعديل الصفة أو المصطلح تنبع من قناعتي أن اللغة ليست أداة للفكر فقط، بل هي الفكر ذاته، واستخدامها تعبير عن صفاء ومتانة هذا الفكر القادر على اتخاذ موقف واضح في الخبر الذي ينقله من القاتل والمحتل، ومن الضحية وكفاحها من أجل الحرية.

لقد برهن أعداؤنا مرة تلوَ الأخرى أنهم يخصصون الوقت والجهد والتمويل لصياغة المفاهيم التي تناسب أغراضهم وأهدافهم وتغطي على جرائمهم ضد الإنسانية، بغضّ النظر عن صلتها بالواقع أو تناقضها معه إلى درجة أن الكثيرين منهم يتساءلون بكل جرأة «من يهتم بالواقع، المهم هو المفهوم الذي يتشكل لدى غالبية الناس». وفي هذا القول جزء كبير من الواقع الفعلي للإعلام المعاصر شئنا أم أبينا. فكم يعرف العالم اليوم عن حقيقة ما يجري في أفغانستان مثلاً، ومن هم الثلاثون«ناشطاً» الذين سمعنا أنهم قتلوا منذ أيام على أيدي قوات التحالف الغربية؟ أوَلا نحاول جميعنا فهم ما يجري في أفغانستان والعراق ولبنان والسودان والصومال والقوقاز من خلال ما تقدمه لنا وسائل الإعلام من أخبار معدّة وفق قوالب لغوية جاهزة مسبقاً لتبرير جرائم الحرب المرتكبة ضد الإنسانية، من قبل الأنظمة الغربية؟ أوَلا يعني هذا أن من يملك وسائل الإعلام يملك «الحقيقة» التي يشاء ويشكّل «الرأي العام» الذي يبتغي؟

والمفهوم هذا يمتد من الدول والشعوب إلى القضايا والأشخاص والقادة، إذ أن العالم برمته يشكل انطباعاً عما يفعله هذا البلد أو ذاك، وعن تقييم هذا المسؤول أو ذاك من خلال ما يوصله لنا الإعلام «الحر». كم هي قوية إذاً تلك القبضة الإعلامية التي تمتلك الأحكام السياسية والأخلاقية والمعرفية، وأين هم العرب اليوم من استخدام هذه الآلة لصالحهم؟ إذا كان تشرشل قد قال «أعلم أن التاريخ سيكون رحيماً معي لأنني أنوي كتابته» فهل يمكن أن نستنتج اليوم أن العالم لا يهب لنصرة العرب لأنهم لا يصفون ولا يكتبون قضاياهم، بل يروجون ما يكتب الآخرون عنهم ولهم وضدهم ومن أجل استهدافهم؟ وإذا راجعنا نحن اليوم أحكامنا على رجالات العصر في العشرين سنة الماضية على سبيل المثال لا الحصر، نجد أن معظم أحكامنا قد تشكلت بفعل ما وصل إلينا من أخبار عن هؤلاء ولا سبيل آخر لاكتشاف الحقيقة، علماً أن الحقيقة تبقى نسبية، ولكن المفارقة تكون صارخة أحياناً بين الصورة المكونة في الأذهان عبر الصياغة اللغوية للخبر وبين الواقع الفعلي الذي لا مصلحة للبعض في تسليط الضوء عليه. من هذا المنظور بالذات نرى في الإعلام ترتفع قامة اليوم وتسقط غداً ونبدو جميعاً مندهشين في الحالتين: مندهشين من السرعة التي صعدت بها هذه الشخصية، وبالطريقة التي أودعت في هامش الحدث والتاريخ لاحقاً.

كل هذا لا يعني أن الأمور تسير بدون ضوابط أو معايير أو أهداف، ولكن الذي يخلق هذه المعايير والأهداف ويصفها ويعمل على تنفيذها ينتمي إلى قطب واحد أتقن فنون اللعبة، وأخذ يطبقها على الجميع في كل أنحاء العالم، مستفيداً من جهلهم بهذا المضمار وخوفهم من ولوج أبوابه وعجزهم عن بذل الجهد والمال المناسبين لمقارعة هذه اللعبة على قواعدها الأساسية. والنتيجة هي أن معظم البلدان ترتكز على الفكر والصورة المنتجة في المركزية الغربية، وأنها تتعامل حتى مع بعضها على أساس هذه الصورة التي تنبثق من الغرب دوماً. كم يساعد هذا الأمر في إحباط الهمم وتخريب الذمم من خلال الحملات المدروسة والموجهة والتي تهدف إلى كسب حروب قبل أن تُشن؟

عل هذا يفسر سبب وقوع حكام وشخصيات هامة في التاريخ تحت وهم حتمية خدمة الغرب والانصياع له لقاء ابتزاز أو تهديد أو إغراء يسبقه ويواكبه ويتبعه تضليل معلوماتي مدروس نفسياً وذهنياً وفكرياً وإرادياً، ومجرب على كثيرين قضوا وساروا في المسار ذاته، واكتشفوا أن الهالة التي أحاطت بهم حين كان من المطلوب منهم تقديم خدمات قد سقطت مرةً واحدة، وأصبح من غير المرحّب بهم حتى كبشر عاديين في البلاد التي فردت لهم السجادة الحمراء، وأقامت أهمّ حفلات المصافحة على شرفهم. ولكن إذا كان هذا ما فعله الغرب بشاه إيران، ومشرّف، وشيفارنادزه، والعديد من العرب أيضاً، أفلا يوجب هذا على أصحاب العقول استخدام فطنتهم وقراءة التاريخ والاتعاظ بالعبر الوفيرة فيه؟ إذا كان الغرب مستمراً في هذا السياق لأنه برهن فائدته له، فلماذا لا يكتشف الرجال سوء هذا المسعى لهم ولبلدانهم؟ ولماذا يسقطون واحداً تلو الآخر بألق اللحظة الذي صنع خصيصاً من أجل إبهارهم واحتراقهم كالفراشات بنار الضوء الذي يسعون إليه؟ إذا كان الغرب قد فهم عقلية ونفسية هؤلاء، أوَلا يتوجّب على كل من هوى ويهوي أن يأخذ عبرة من الماضي والحاضر، أم أن الأساليب المتبدّلة والمحدّثة تهدف إلى إتقان لعبة الصيد رغم الفطنة والحذاقة؟

هل يصبح السقوط الأخير نتيجةً حتميةً للانزلاق الأول والذي قد يبدو بسيطاً وغير ذي ثمن يُذكر؟ وإلا كيف يمكن للمرء أن يفهم سقوط الحاكم تلو الآخر، مع أنّ جميعهم أدوا اليمين وأقسموا الإخلاص لبلدانهم وشعوبهم؟ من يريد حماية قدره وقدر أهله عليه ألا يتساهل حتى بوصف قد يبدو بسيطاً وغير ذي أثر يذكر. فما بالكم إذا كان التساهل بأصحاب الضمائر الحرّة في العالم الذين يغامرون بحياتهم لنصرة شعب فلسطين الذي غيّب الإعلام «الحرّ» حقيقة الاضطهاد والعنصرية والعقوبات الجماعية التي يتعرّض لها منذ ستين عاماً ويجب أن يندى لها جبين مرتكبيها والساكتين عنها، والتي لو وصلت إلى عناوين نشرات الأخبار كما تستحق، لما سكتت البشرية عنها. لقد قضت راشيل كوري، وجيمس ميللر، ومئات آخرين من أحرار العالم الذين يدعمون قضايا الحرية والاستقلال وحقوق الإنسان، ولكن الإعلام «الحرّ» يخلق مفهوماً مختلفاً ليصيب أصحاب العزائم بالوهن، فيسقط منهم من يسقط ويبقى الصامدون قلة تعتقد أنها وحيدة أو معزولة أو عاجزة عن المواجهة. ولكن حين تشحذ الهمم للتصدي للكلمة بالكلمة المقاومة، والفكرة بالفكرة النيّرة، والمثل الخائب بالمثل الصائب، تشكل مرجعية أصحاب الحقوق لتشدّ من أزر من وهن عزمه، ولتسلّط الضوء على الفضاء الواسع من الأصوات الحرّة التي تأبى الظلم والتي تؤمن بالكرامة الإنسانية المتساوية ولكنها تحتاج فقط إلى من يسلّط الضوء على وجودها وأهمية هذا الوجود، بعيداً عن حملات التغييب والتضليل المغرضة المستمرة. ولذلك فإن ركاب السفينتين القادمتين إلى غزة هم أحرار ومناضلون من أجل الحرية وحقوق الإنسان.

www.bouthainashaaban.com