والليبراليون مشوهون أيضا!

TT

عشر سنوات مضت منذ كتبت باللغة العربية في صحيفة «الشرق الأوسط»، وهي «شباك» فتح لي لأطل منه على القارئ العربي. وبلا شك، فإن حظي أفضل من غيري في الكتابة، فـ«الشرق الأوسط»، التي بلغت من العمر ثلاثين عاما، فيها نوافذ مفتوحة لمن أجاد. صحف المهجر ليست كصحف المقر، ولا تخضع للضغوط ذاتها. وفي خطوة لا بد من التنويه بها لما لها من دور كبير في رفع السقف المهني للصحافة المكتوبة، أعلن رئيس مجلس إدارة الشركة المالكة لجريدة «الشرق الأوسط»، الأمير فيصل بن سلمان، بأن فصل المال عن التحرير ضرورة لأي صحافة تريد المهنية معيارا، لذا أنشأ مجلسا للأمناء يسهر على حراسة عملية الفصل ما بين المال والتحرير، وهي تجربة فريدة في العالم العربي، الذي يسيح فيه المال على القيم فلا يثريها وإنما يفسدها وتفسده.

بكل تأكيد، هناك في العالم العربي من هم جديرون بالكتابة ولم تتح لهم هذه الفرصة، ذلك لأن الكتابة عند العرب هي إطلالة من شبابيك لن تقدر على فتحها بنفسك وإنما تفتح لك أو تفتح عليك. والأمر لا ينطبق على الكتابة فقط، وإنما ينطبق على التلفزة وعلى السينما وعلى معنى المثقف جملة، كلها أمور تصنع لك وما عليك إلا أن تلبس الدور، أو أن الدور يلبسك. والشبابيك التي تفتح لبعض الكتاب عندنا ليست إطلالة جميلة دائما، فقد تفاجأ وأنت تمر في الطريق بأن شباكا قد فتح عليك وألقيت منه زبالة على رأسك، وما عليك إلا السكوت.. فلا قانون يحرم أو يجرم إلقاء الزبالة على رؤوس البشر، بل تجد من يهب دفاعا عمن ألقوا الزبالة، قائلين بأن من ألقيت على رأسه «يستاهل»، وتخرج عليك جوقة صحافية وإعلامية، تشرح لك لماذا «يستاهل» صاحبنا أن تلقى على رأسه أكوام أكبر.

مشكلتي مع الكتابة للعالم العربي، ليست مع أنظمة حكم يمكن وصفها بالتسلطية، حتى لا يظن القارئ بأنني أتبنى موقفا «للزوم الشياكة» على غرار المثقف العربي المعارض. مشكلتي في المقام الأول مع المجتمعات العربية المبنية على الخوف والتخويف. فعندما أذهب إلى بلد عربي مثلا، لا تضايقني السلطة الرسمية رغم ثقل ظلها، بقدر ما تثير اشمئزازي مافيات الكتابة وحراس الكلام ممن نصبوا أنفسهم نوابا عن الخليفة، وعن الله في الأرض، يخونون ويكفرون. لا أعفي الحكومات، بالطبع، من مسؤولية ظهور هذه المافيات. فهي ترعرعت في كنفها وتحظى برعايتها، ولولا هذه الرعاية لما قامت لهؤلاء قائمة. والأمر هنا لا علاقة له أبدا بحرية الرأي والتعبير والإعلام، إنها جزء من لعبة خبرناها.

في جمهوريات الخوف، لا تستطيع أن تنتقد عملا بحرية، حتى ولو كان عملا أدبيا أو فكريا مسروقا، وهناك عشرات الأعمال التي يروج لها على أنها عربية أصيلة كخيولنا، وهي مسروقة من سينما الغرب عيني عينك، مثل سرقة فيلم Pretty Woman (المرأة الجميلة) إلى سرقة فيلم Beautiful Mind (عقل جميل)، وهما فلمان معروفان للجميع لأنهما حازا جوائز الأوسكار، سرقة في وضح النهار تقدم على أنها ابداع خالص للسينما المصرية. هذان مثالان من عالم السينما فقط، وهما من عشرات الأمثلة الأخرى في الأدب والسياسة. ولن أتحدث هنا عن سرقة مسرح يوجين أونيل، أو خطب كتبت لجمال عبد الناصر طالما (أطربت) الجمهور العربي وهي مسروقة من خطابات جون كينيدي، وكتب وموسوعات مسروقة، عيانا بيانا، من الغرب والشرق، قدم أصحابها على أنهم عظماء العصر. لا تستطيع أن تكتب عنها، لأنك لو فعلت ستحطم مقدسات، وستكون مافيات الكتابة والإعلام جاهزة لإلقاء ماء النار على وجهك لأنك تجرأت عليها! وبذا، بنى عالمنا العربي قصورا من رمال لأيقونات فكرية لم تكن أصيلة، لا هي صادقة مع نفسها ولا مع المتلقي. ورغم عشرات السرقات الواضحة، لم نر حتى الآن مقالات أو كتبا تناقش السرقات الفكرية، لأن عصابة اللصوص جاهزة لتشويه وجهك «ببشلة»، كما كان يفعل صغار اللصوص في أتوبيسات القاهرة، يشوهون وجه الضحية بعد سرقتها.

أول متطلبات الكتابة في (صحف المقر) اليوم، هو أن يكون الكاتب ملتزما بمطالب أصحاب النافذة، يردح ويقدح باسمهم، ويمدح ويبجل باسمهم، من رضوا عنه فهو مجيد، ومن لم يرضوا عنه فهو سافل وكئيب. ويكفي أن يطلق أصحاب النوافذ جوقتهم من الكتاب على من يختلف عنهم حتى يشوهوه ملامحا وتاريخا وملة، لا أقول إلى الأبد، وإنما حتى يختفي طوعا عن الأنظار. هذه الهمجية لا تسمح لأصوات عاقلة بأن تظهر، كما أنها لا تقبل إلا بمساحات بسيطة من الاختلاف، متى ما تم تجاوزها، أغلق الشباك. والضحية غالبا ما تقلد الجلاد، يمارس عدد غير قليل من الكتاب والإعلاميين وممن يدعون الثقافة في العالم العربي اليوم، أسوأ أساليب الدكتاتوريات العتيدة في إقصاء من يظنون أنهم خصومهم بتخوينهم وإخراجهم من الوطن كمرحلة أولى، ومن ثم تكفيرهم وإخراجهم من الملة كمرحلة ثانية، ومتى ما أخرج الفرد من الملة والوطن فقد مات «بالحيا»، بقبول شعبي وتصفيق حار، أي أصبح الرجل يمشي على الأرض ميتا لا ذكر له ولا ذكرى.

أخطر ما في الأنظمة التسلطية هو كونها نتاج أنظمتها الاجتماعية والثقافية المتكاملة. فالمتسلط ليس نبتا شيطانيا، المتسلط في الحكم هو ابن بيئته، زرع نما وترعرع في تربة هذا نتاجها، ولن تنتج غير ذلك إلا بعد تقليبها مرارا وتكرارا وحتى يشم كل ترابها الهواء ويعرف كل ترابها الشمس. من الخطأ الجسيم أن يتصور البعض أنهم قد خرجوا ليبراليين حقيقيين من بيئة تسلطية. البيئة التسلطية تنتج ليبراليا مشوها في أحسن الأحوال، ليبراليا على الورق وبالحبر وفي قضايا محددة، لكنك إذا ما ناقشت الفرد (الليبرالي على الورق) وجدت تشوها لا يحتمل، فهو عنصري أحيانا ضد الآخر المختلف لونا أو مذهبا أو عرقا ويتحدث في أحايين كثيرة عن المرأة بابتذال متصورا أنه الفحولة. وما ينطبق على الليبرالي ينطبق على الإسلامي أيضا، فالإسلامي الذي يتحدث عن أن الإسلام قد ساوى بين الرجل والمرأة وبين الأبيض والأسود، هو نفسه الذي ينعت باراك أوباما بالعبد، وهو نفسه الذي يعامل المرأة بدونية أبعد ما تكون عن روح الإسلام الصافية. البيئة الملوثة بالتسلط لا تنتج إلا إسلاميا متسلطا أو ليبراليا متسلطا، إذا ما جردتهم من لحاهم أو «فذلكتهم» الليبرالية، لن ترى إلا قبح التسلط.

ربما يتساءل البعض لماذا أكتب هذا، ولماذا الآن؟ ببساطة لأنني مللت المجاملات الكاذبة في الكتابة. فلقد خبرت المناخ الثقافي العربي بحكم نشأتي وسنوات الشباب الجامعية الأولى، ومن ثم كنت قاسيا على نفسي في تعلم آداب الغرب وثقافته، ليس رغبة مني في أن أكون كاتبا أو مثقفا، وإنما كان تحدي الهجرة ومحاولة للمعرفة بقصد حماية الذات والتعرف إليها من خلال الآخر المختلف. فتعرفت على الآداب الغربية، وفي الطريق قرأت كتابات أوروبية وغربية من أميركا واليابان وأوروبا الشرقية والغربية، فبدا بعض منها معروفا سلفا لدي لأنني قرأت شبيها له باللغة العربية من قبل، وأحيانا سمعته موسيقى.. وكنت أتساءل دائما من سرق من؟ وبعد عناء اكتشفت أن احتمال أن يكون المبدع الغربي هو من قام بالسرقة الفكرية والفنية من المبدع العربي هو احتمال أقرب إلى المستحيل، ليس لأن العمل الفني والأدبي الغربي سابق في الزمن والشهرة فقط، وليس أيضا لأن الغرب ناسه قديسون جميعا ولا يوجد بينهم من تسول له نفسه أن يأخذ جهد الآخرين وينسبه لنفسه، ولكن لأن هناك مؤسسات ثقافية وقضائية واجتماعية غربية صارمة في هذا المجال، وفعلة كهذه إن اكتشفت سيدفع صاحبها ثمنا باهظا من ماله وسمعته ومستقبله المهني. أما عندنا فقد تخندق الكتاب في شلل بعينها، وتخندق الإعلاميون في مافيات بعينها، وتخندق المثقفون فيما يتخندقون، ولكل نجومه وعمالقته ورموزه ومقدساته. الويل كل الويل لمن يجرؤ على النقد.. وقتئذ، تفتح الحناجر والشبابيك على أوسعها لتصب عليه من حمم الكلام.

الكتابة في العالم العربي اليوم ليست نوافذ لفهم أوسع ورؤية أوضح. الشبابيك عندنا لا يحركها نسيم العقل بل ريح صرر.. رياح سموم لا تشفي عللا ولا تقتل مللا.. في الصعيد موال شعبي يقول: «أشرب المر والخل ليه، أقفله يابيه ولا أخليه... كان القاضي اسمه حسن، عنده عقل وإحسان، قال له يابني قفله أحسن».. حقا، قفل بعض شبابيك الكتابة أحسن.