لبنان في دوّامة العنف الديني

TT

«الفيحاء» لقب من ألقاب مدينة طرابلس اللبنانية. هو تشبيه لها بدمشق الفيحاء. كانت كلتا المدينتين محاطتين بسوار من الخضرة الكثيفة. لم تعد دمشق فيحاء، منذ أن التهم الخضرةَ انتقالُ السكان العشوائي من الريف إلى المدن. ولم تعد طرابلس «فيحاء» منذ أن ورث نظام الأسد (الأب والابن) سورية، ودمر عاطفة العروبة التي ربطتها بسنة لبنان.

طرابلس مدينة لأكبر تجمع سكاني سني في لبنان، بما في ذلك بيروت. هي اليوم مستودع تفوح منه رائحة الموت بالبارود ومدافع الهاون وصواريخ الكاتيوشا. هي الآن مسرح عمليات لصراع مذهبي مقيت ومقزز (بين سنة المدينة وجيبها العلوي) ولصراع مخابراتي اقليمي وربما دولي.

طرابلس اليوم عاصمة للعنف الديني في لبنان. فهي وشمال لبنان بؤرة لتنظيمات معروفة ومجهولة غامضة في تمويلها وارتباطاتها بالتيارات السياسية في لبنان وخارجه، وفي استلهامها «القاعدة» و«طالبان».

لماذا هذا الحديث الممزوج بالبارود عن طرابلس؟ لأنها كانت أخيرا مسرحا لعملية قتل جماعي تحاكي عمليات العنف الدموي في الجزائر وموريتانيا والعراق واليمن وباكستان وافغانستان. القرن الميلادي الجديد يشهد الموجة «الأفغانية» الثالثة. كان هدف الموجتين السابقتين أميركا والنظام السياسي. الهدف المباشر اليوم هو المؤسسة العسكرية وقواتها المسلحة في هذه الدول. فهي رمز الاستقرار والوحدة الوطنية.

لبنان ليس بغريب عن عمليات العنف الجماعي. قتل الألوف، بينهم رؤساء وزعماء ورجال دين، بتخطيط وتنفيذ دول وأجهزة مخابرات تابعة لها، واستُخدمت في بعضها خلايا للعنف الديني السني والشيعي. لكن وجه الخطر في عملية طرابلس الأخيرة كونها تدخل لبنان في عداد الدول التي تعاني من مجازر العنف الديني ومآسيه.

ربما لست بحاجة إلى تحذير القيادات العسكرية والأمنية في لبنان بالقول انها مستهدفة بعمليات اغتيال، كتلك التي ذهب ضحيتها العميد فرانسوا الحاج مدير عمليات الجيش. ولا يمكن عزل عملية اغتياله عن نشاط وتحرك شبكات وخلايا العنف الديني في لبنان. كان الرئيس ميشال سليمان متنبها وحذرا. فقد ذهب إلى دمشق بالطائرة، بعد ساعات من الانفجار بطرابلس، تفاديا لما لا تحمد عقباه على الطريق البرية.

سبق عملية طرابلس تهديدات لابن لادن وأيمن الظواهري بالقيام بعمليات في لبنان. ليس سرا أن لبنان يَعُجُّ بالتنظيمات «الجهادية» الدينية. هناك اليوم أيضا في المخيمات الفلسطينية وجود ما لـ «القاعدة»، تماما كما هو الحال في غزة، وربما في الضفة. لا أدري ما إذا كان الرئيس سليمان طلب من صديقه الرئيس بشار تزويد المخابرات العسكرية اللبنانية بمعلومات المخابرات السورية عن شبكات العنف الديني في لبنان، وهي معلومات قيِّمة جمعها النظام السوري خلال تمدده الطويل في أرض جاره.

كالعادة، لا أتوقع ان يخرج التحقيق اللبناني بنتيجة حاسمة ودامغة في عملية طرابلس. لكن بالقياس والاستقراء لا يمكن استبعاد تنظيم «فتح الإسلام» والخلايا المشابهة له والمتعاونة معه. العملية توحي بوجود رغبة «جهادية» جارفة للانتقام من عملية «تطهير» مخيم نهر البارد. مع وعيي التام لخطر هذا التنظيم، أود أن أصارح القيادات العسكرية والأمنية اللبنانية، بأن «التطهير» بالغ في تدمير الحياة الاجتماعية والبنى التحتية، بحيث وصل أحيانا الى درجة «الاستئصال».

الصحافة اللبنانية لم تجرؤ على القول ان تصفيات تناولت عناصر من «فتح الإسلام» استسلمت في نهاية الحرب الطويلة. أقول ذلك وأنا أقدر ما اعتمر في قلوب العسكريين من حزن على زملاء لهم قتلوا خلال المواجهة، أو ذبحوا بوحشية وهم عزل من السلاح في طرابلس وعكار.

المعيب ان لبنان يخلو من منظمات حقوق الإنسان التي كان عليها أن تهيب بالقضاء اللبناني فتح ملفات «التطهير» في المخيم المنكوب، لجلاء الحقيقة، وتحديد المسؤولية. لو تم ذلك لما تجرأت التنظيمات «الجهادية» على مخاطبة الرأي العام اللبناني، من خلال تظاهرات علنية في بيروت، رددت فيها شعارات «القاعدة» و«طالبان».

إذا كنت أعيب على طرابلس السنية السماح لشبكات العنف الديني في استفزاز الجيب العلوي، وهو موجود في المدينة قبل الدخول السوري إلى لبنان، فإني لا أبرئ سورية وحزب الله من علاقة مريبة مع هذا الجيب، تسليحا وتدريبا وربما تحريضا.

على أية حال، فتوى حسن حزب الله الأخيرة بالتهدئة وطي صفحة الماضي بعد اطمئنانه على الإنجازات والانتصارات «الإلهية»، لا تكفي. الحزب بعد دخوله الحكومة شريكا في السلطة مطالب بتهوية تركيبه التنظيمي، وفصل عمله السياسي عن ذراعه الميليشيوية. لا بد مثلا من الإعلان عن عدد شهداء الحزب في حربه الأخيرة مع إسرائيل.

خطر ميليشيا الشيعة الحزبية لا يقل عن خطر شبكات «الجهاد» السنية. كلاهما خطر على الحياة السياسية، والديمقراطية، والتعايش السلمي والاجتماعي بين الطوائف. حسن حزب الله غير متنبه لظاهرة فلتان «الانضباط» بعد غزوته «الإلهية» لسنة بيروت.

وجد الحزب مع حليفته «أمل» صعوبة بالغة في «ضبضبة» العناصر الميليشيوية الفالتة. وهو خطر قابل للانتشار والانفلات بعد غزوة «إلهية» أخرى للسنة أو للمسيحيين، تماما كما حدث لميليشيا مقتدى الصدر في العراق التي تورطت، بعد تمردها على قائدها المعصوم، في عمليات التطهير والعنف الديني. الانفلات احتمال قوي إذا اختلف السيد حسن مع شركائه في الحزب، أو إذا تعرضت إيران لنكسة أو هزيمة عسكرية.

فاجعة طرابلس تكاد تنسيني الحدث السياسي: أهمية زيارة الرئيس سليمان لسورية ليست في الإنجاز الديبلوماسي فحسب (فتح سفارتين متبادلتين)، إنما بقدرته على تأكيد مصداقيته لدى اللبنانيين والسوريين، كرئيس مستقل عن «الأكثرية» المعادية لسورية، و«الأقلية» الشيعية المتحالفة معها. اختير سليمان قائدا للجيش في الزمن السوري في لبنان. مع ذلك كان صريحا مع السوريين، خلافا لسلفيه الهراوي ولحود، فيما يبدو أن بشار كان متفهما.

العسكري سليمان أدرك ما لا يدركه كثير من الساسة المدنيين في لبنان: لا يمكن قيام حكومة معادية لسورية في لبنان، لا سيما في عصر نظام، كنظام الأب والابن، نظام شديد الفضول والرغبة في اقتحام بيوت الجيران.

لعل الإنجاز الأكبر لسليمان هو في قدرته على مصالحة رموز «الأكثرية» مع بشار. نعم، أحيلت القضايا المعلقة إلى لجان «دفن الموتى». لكن السنيورة الحكيم ما زال راغبا بزيارة سورية، إذا دعي كرئيس لحكومة لبنان الممثلة فيها سورية بوزراء عون وشيعته. موقف السنيورة يتناقض مع عدم رغبة رئيس كتلته (المستقل) سعد الحريري بمثل هذه الزيارة. فهو يتكلم بفجيعته الشخصية بأبيه الراحل الذي اختلف مع سورية.

كم كان اللبنانيون الذين لاموا الرئيس الفرنسي ساركوزي مخطئين. لولا ساركوزي لما اعتدلت مواقف سورية بشار إزاء لبنان. صحيح أن بشار أسند إلى «المذيع» نصري خوري إذاعة نتائج زيارة نده سليمان. فهو يعتبر مجلس نصري الأعلى (السوري/ اللبناني) بديلا للسفارة اللبنانية «المستغلة». لكن على بشار ألا ينسى أن خروج نظامه من قفص العزلة (الأميركية) له، يمر عبر البوابة اللبنانية.