مواطنو الإمام

TT

لفت نظري في الأخبار التي تناولت، هذه الأيام، صحة المرجع الديني الشيعي الأشهر، السيد علي السيستاني، قوله للصحافيين الذين جمعهم حتى ينفي خبر مرضه وفقدانه للوعي: «الحمد الله أتمتع بصحة جيدة واستقبل يوميا العشرات من المواطنين من كافة أنحاء العالم». كما نشر في هذه الصحيفة امس.

أرجح أن رجل الدين الشيعي المسن قد قال هذه الكلمة كما نقلت عنه، أعني: «المواطنين من كافة انحاء العالم». لأنه بالفعل يتزعم «أمة» من المؤمنين الذين يعيشون في كنف رعايته الايمانية والدينية، وهم رعايا هذه الدولة الوجدانية الدينية غير المقيدة بحدود او جغرافيا وغير المتجسدة في ارض او بطاقة وطنية او جواز سفر.

هم مواطنون، في دولة الايمان والدين، وهو زعيم هذه الدولة.

تفسير هذه الرابطة اللامرئية المخترقة للحواجز والحدود، سهل وميسور، ذلك أن رابطة العقيدة، ومن يمثل ويرعى ديمومة هذه الرابطة، مقدم على كل رابطة اخرى، كائنة ما كانت هذه الرابطة، حتى يبدو للمراقب في عالمنا الاسلامي أنه لا توجد دول ولا روابط مهنية او نقابات او اهتمامات فنية او أخويات ثقافية أخرى على طول هذه الرقعة الشاسعة من: بالي الى طنجة، ومن البوسفور الى باب المندب، إلا رابطة واحدة وحيدة هي الرابطة العقدية ومعها، الى حد ما، وتابع، الرابطة العشائرية او الاثنية، ونقول تابعة لها تأكيدا لأولية الرابطة العقدية، لأنها من تمنح الروابط الاخرى، عادة، محتواها الايدلوجي، باعتبار أن كلتا الرابطتين تنبعان من شعور جمعي قائم على حماية الهوية وإغلاقها من أي تأثير خارجي، فهما انتماءات هوية محافظة بالدرجة الاولى.

ما الذي يجعل رجل دين عراقيا او لبنانيا او ايرانيا يملك القدرة على التحريك السياسي لمواطنين في دولة اخرى، وفق رؤيته لمصلحة «الامة الدينية» دون أدنى اعتبار لتناقض التقدير بين مصلحة المواطن المنتمي للدولة ومصلحة «المواطن» المنتمي للأمة الدينية؟

سؤال على ضوئه يتقرر مستقبل فكرة الدولة والمواطنة في هذه المنطقة من العالم.

هذا التأثير السياسي العابر للحدود، نجده لدى الشيخ السني والمعمم الشيعي، على مواطنين آخرين في بلد آخر، غير بلد هذا الشيخ او هذا المعمم.

نحن حقيقة ازاء تضخم هائل في دور رجل الدين، التقليدي او الحركي، في التأثير على الحركة السياسية وتحديد الاتجاهات، ورسم الأولويات، نحن ازاء سقف ديني يحكم كل اللاعبين السياسيين، ولا يمكن تجاوز هذا السقف، ودعونا نكمل الحديث عن العراق، فنموذج السيد السيستاني مثال واضح على ما نتحدث عنه، فهو الذي على بركته قام الائتلاف الشيعي الحاكم في العراق، وهو من يطلب الكردي العلماني جلال الطالباني، بركته في المنعطفات الهامة في العملية السياسية العراقية، وهو من يقرر إضفاء بركته على هذا الطرف او ذاك، طبعا البعض يرى ان جماعة مثل جماعة مجلس عبد العزيز الحكيم، توهم الآخرين بأن المرجع معهم، في حين أن المرجع قد لا يكون معهم بنفس القوة الموهم بها، غير أن هذا تفصيل لا يقدم ولا يؤخر، على العكس بل ربما يشير الى عظمة النفوذ السياسي للمرجع الديني، للدرجة التي تجعل أكبر فريق سياسي شيعي في العراق يتمسح بعباءة المرجع الديني.

رغم أن اياد علاوي، رئيس الحكومة العراقية السابق، حذر في مارس 2005 من تعاظم دور رجال الدين العراقيين في العملية السياسية، واشترط ـ حينها ـ لمشاركته في الحكومة شروطا في مقدمها غياب نفوذ علماء الدين عن الحكومة، إلا أن ما جرى عقب ذلك لم يكن إلا تعظيما وتضخيما لهذا الدور، حتى من الطرف السني عبر بروز ظاهرة «هيئة علماء المسلمين» وشخصية حارث الضاري، المقابل الموضوعي الديني لدور العمامة الشيعية المسيسة. في تناغم مذهل، قزم دور الساسة المحترفين الدنيويين لصالح العباءة السنية او العمامة الشيعية، وكلا الطرفين، أعني السيد الشيعي او الشيخ السني، لا يمارسا العمل السياسي بشكل مباشر، ويعلنا استنكافهما عن ذلك، لكنهما في نفس اللحظة يمارسان هذا العمل من خلال إحلال بركته او نفي هذه البركة عن هذا الطرف او ذاك، وهذا عمل في صلب السياسة.

ويبدو أن مقتدى الصدر قد فهم شروط اللعبة جيدا في هذه المرحلة، معلوم، فكل شيء يأتي بالتعليم ! فها هو الآن يجهز نفسه بالسفر الى «قم» من أجل أن يتجهز دينيا، ويعود الى العراق بـ«نيولوك» جديد، عليه شيء من مسحة القداسة الدينية، بها يمارس السياسة. وحسب مساعد لمقتدى الصدر، صرح لهذه الصحيفة، فإن مقتدى تفرغ مؤخرا للدراسة لنيل درجة دينية عليا، وأن دراسته الحالية في قم ترمي الى إعداده لتولي مكانة في العراق مشابهة لموقع حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني، وأن الصدر يروم الحصول على تلك الدرجة عام 2010، في خطوة تأتي لمنافسة المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني. ويشرف على دراسة الصدر في قم آية الله كاظم الحائري ورئيس القضاء الايراني محمود الهاشمي.

لا ندري هل يوفق الأخ مقتدى في مسعاه، وهل يستطيع في 2010 أن يكون قد استوعب ما هو مطلوب منه في العلوم الدينية، أو على الاقل يعطي الانطباع بذلك للجمهور والخصوم، لكن ما ندريه حقا أن مشيه بهذا الاتجاه ينم عن ذكاء شديد، يحمد لمن وجه الشاب مقتدى بهذا الاتجاه، وأنه مستوعب تماما لطبيعة المرحلة، وطبيعة ادوات الفعل السياسي الآن، على الأقل في العراق وحتى لبنان، ولا ندري عن الساحات الاخرى المؤهلة.

لماذا نرفض ان يمارس رجل الدين السياسة بهذه الطريقة وان يتعاظم دوره لهذا الحد؟ لأن رجل الدين حينما ينزل عن كرسي العموميات الاخلاقية والتوجيه الروحي العريض، فإنه يتحول من مصدر قوة روحية وخزان أخلاقي للمجتمع الى «فاعل سياسي» من ضمن عشرات الفعلة، ينقلب الى طرف من الاطراف، هذه الاطراف التي قد تتعرض للبتر او للغرغرينا السياسية، ولا يصبح روحا تستمد خلودها من طاقة النور الدائم.

لقد شوه الخطباء ورجال الدين انفسهم حينما خاضوا في السياسة الى هذه الدرجة، والحق ان الملوم الرئيس في هذا التشويه هو من فتح المجال لرجال الدين وحولهم من ملاذات روحية وأخلاقية آمنة للجميع الى أدوات تستخدم في النزال السياسي، وهو ما تحول مع الوقت الى لعبة تستهوي بعض اللاعبين الجدد، وكل ما هو مطلوب هو عمامة او عباءة، وجملة من الشعارات وبعض المزايدات، فتنهال أصوات الجمهور على السياسي «النقي»!

بكل حال، فإن وصول العمل السياسي العربي الى هذا المستوى، وما هو اسوأ في المستقبل القريب، دليل ساطع على رداءة الحال، وإخفاق الساسة عن تحمل ثقل العمل السياسي للدرجة أضعفت المناعة، وجعلت شخصا مثل مقتدى، وعشرات «المقتديات» الآخرين، سنة وشيعة، يدخلون السياسة، ويحشدون الجماهير الهاتفة، إنه اعلان لوقائع موت عقلي معلن في عالمنا الاسلامي المحتار.

[email protected]