هل تُدفع الفاتورة الجورجية في لبنان؟

TT

الزيارة الاستراتيجية التي قام بها الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد إلى روسيا، والكلام الذي نقلته على لسانه بعض الصحافة الروسية، والعروض التي قيل إنه قدمها لموسكو وقدّمتها له في مواجهتها الحالية مع واشنطن، تبدو مثيرة للتعجب.

الجانب الأعجب ليس إبداء التضامن مع «حليف» قديم ما زالت أدبيات السياسة السورية تدّعي قواسم مشتركة معه، بل فتح معركة مع «عدوّ» تبدي القيادة السورية.. الحالية ـ على الأقل ـ رغبة حارة في فتح صفحة جديدة وإيجابية معه.

والأمر المثير لعلامات الاستفهام هو أنه إذا كانت السياسة الأميركية الخرقاء قد تجاوزت الحد المقبول منطقياً للتعامل مع حساسيات قوة كبرى كروسيا وهواجسها، وأضرّت بدولة صغيرة مثل جورجيا عن طريق زجّها ـ بالواسطة ـ في مواجهة أكبر منها، فهل تستطيع دولة صغيرة أخرى بحجم سورية.. وبعيدة نسبياً عن حدود روسيا.. أن تعيد فرض التوازن الاستراتيجي في منطقة شرق البحر المتوسط والقوقاز؟

أغلب الظن، وبعض الظن إثم، أن مخطّطي السياسة الخارجية في دمشق الذين يشهد لهم اللبنانيون قبل غيرهم بـ«الشطارة» يدخلون نوبة التضامن مع موسكو من منطلق استدراج العروض مع الغرب.

وبالتالي، فالتفكير الدمشقي ـ حتى لو تواضع وقبل أن سورية ليست دولة عظمى ـ يقوم مرة أخرى على مبدأ «فاتورة» ما تسدّد هنا وهناك. وإذا ما تذكّرنا أن تركيا نفسها عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) وثمة قواعد أميركية ضخمة على مرمى حجر من مدينة حلب بشمال سورية، ناهيك من وجود إسرائيل وراداراتها في جبل الشيخ القريب من دمشق، تصبح حكاية «الفاتورة» أكثر صدقية.

ما تريده دمشق هو أن تُدفع لها «الفاتورة» في لبنان. وحتى الآن، لا بد من الاعتراف لدمشق بأنها خطت نصف الطريق نحو العودة إلى التحكم بمفاصل لبنان عبر «حلفاء» ودُمى وعملاء دائمين وموسميين.

ويجب القول أيضاً إن «اتفاق الدوحة»، مهما كانت المبرّرات المستخدمة لتصديقه وتسويقه، شكّل اختراقاً مهماً لمحور دمشق ـ طهران قد يكون مؤقتاً وقد لا يكون. ومن الضروري جداً التنبه إلى أن كلام الرئيس الأسد في منتجع سوتشي الروسي وكلام وزير الخارجية وليد المعلم في دمشق بنهاية «القمة السورية اللبنانية» يؤكدان أن سياسة دمشق إزاء «لبنان تابع ومنقوص السيادة» سياسة غير قابلة للتغيير.

الوضع الداخلي اللبناني، بطبيعة الحال، يساعد جداً على ذلك.

فسلاح «حزب الله» الباقي وسيلة ضغط وضمانة غلبة.. ممنوع المساس به. وسعي «الحزب» المستمر إلى ضرب التكتلات المناوئة له عبر «أوراق تفاهم» و«وثائق تفاهم» طروادية اختراقية الغايات بات واضحاً وضوح الشمس. والدعوات المحمومة إلى توسيع دائرة القوى المدعوة إلى «طاولة الحوار» ما هي إلا قطف ثمار السلاح المُشهَر و«التفاهمات» الاختراقية الآيلة إلى شلّ الحوار ونسفه.. بعد تعطيل مجلس النواب لأكثر من سنة، والمباشرة حالياً بتعطيل الحكومة.

حالة «حزب الله» مفهومة، وكثيرون حتى ممن يختلفون مع «الحزب» يقدّرون الظروف التي يمر بها وسط الضباب الإقليمي الكثيف والمساومات الجارية من فوقه ومن تحته وعلى جنوبه!

ولكن ماذا عن حالة النائب ميشال عون، الذي أزعم والله أعلم، أن أحداً لا يعرفه مثل دمشق و«حزب الله»؟

اليوم، كما قبيل انتخابات 2005، قرّر عون من موقعه «المعارض» وانطلاقاً من «فكره» السياسي القائم على «تراتبية الكراهية» للجميع، أن يرفع من جديد شعارات طائفية تدّعي أنصاف المسيحيين من ظلم أخوانهم المسلمين... السنّة.. طبعاً!

وهنا لا أجزم في ما إذا كانت حملة عون الأخيرة المشنونة بذريعة إقرار صلاحيات لنائب رئيس الوزراء الأرثوذكسي نابعة من بنات «أفكاره».. أم موحى بها عبر الحدود، في مواصلة متقنة لسياسة التوتير الطائفي الفتنوي. لكنني أدرك من خلال معايشتي سيرة أحزاب اليمين المحافظ واليمين المتطرف العنصري في أوروبا أن ثمة ورقة رابحة، ومضمونة سلفاً، للمحافظين والعنصريين الأوروبيين قبل كل انتخابات.. هي إثارة قضية المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين.

هذه القضية العنصرية تضمن مكاسب لليمين في كل الظروف، قد تصل إلى الفوز في الانتخابات، أو تقصّر فتقتصر على زيادة عدد مقاعده، لكنها تظل مفيدة دائماً.

عون و«تياره» من طينة اليمين المحافظ القائم فكره أساساً على «الكراهية» التي يتعدّل هدفها الأول وفق الظروف، مع أن الثابت الأساسي عند عون هو كره أي قوة أو كتلة قد تعترض سبيل الطموح السلطوي الشخصاني الجامح. وإثارة موضوع صلاحيات نائب رئيس الوزراء الأرثوذكسي ـ التي لا ينص عليها الدستور ـ، لا ينطلق أبداً من حب عون للأرثوذكس بل كراهيته للقيادة السياسية السنّية، بدليل أنه كان ضد أن يمارس نائب رئيس مجلس النواب، وهو أرثوذكسي أيضاً، صلاحياته الدستورية.. وفضّل أن يظل مجلس النواب معطلاً مقفلاً على أن يدعو نائب رئيسه إلى فتح جلساته.

ثم إذا كان من حق الأرثوذكس أن يحصلوا على تعديل دستوري يتيح منح نائب رئيس الوزراء صلاحيات ستؤخذ حكماً من صلاحيات رئيس الوزراء، فلماذا لا يكون لرئيس الجمهورية نائب رئيس كما قال أحد الساسة المسلمين؟ ولماذا لا يحصل الدروز على منصب رئاسة مجلس الشيوخ بعد إنشائه كما ورد في «اتفاق الطائف» الذي غدا جزءاً من الدستور اللبناني؟ وكيف العمل مع الكاثوليك.. فهل يكفي حصولهم على منصب نائب الرئيس الأميركي.. أم تُرى عون يزكّي أحد أصدقائه الكاثوليك «الوطنيين» لمنصب السفير المقبل في دمشق حيث يتوّج من هناك «مفوضاً سورياً سامياً» في لبنان؟.. وماذا عن حلفائه الأرمن.. أيجوز ألا يجود عليهم عون بشيء من فيض إحسانه؟

قلناها بالأمس، ونقولها مجدداً اليوم،.. طالما استسلم اللبنانيون لغرائز يستثيرها مَن هم أسرى كراهيتهم للآخرين، سيسهل على أي كان العبث بلبنان ومنع قيام «دولة المؤسسات» فيه.. سواء نهضت جورجيا أو هٌزمت، وسواء استقَوت روسيا بـ«حليفها» السوري.. أم رجّحت دمشق كفة واشنطن في المواجهة الكونية الكبرى!