معضلة النخبة المدنية في باكستان؟!

TT

كلما سقط حكم أو حاكم عسكري في العالم العربي أو الإسلامي أو حتى العالم الثالث كله، فإن كثيرا من الكتاب يتبارون في تبيان حتمية هذا السقوط بسبب فشل العسكريين في إدارة البلاد بكفاءة، أو حتى الدفاع عنها بفاعلية، فضلا عن اتسام الحكم بسمات مختلفة كان فيها الاستبداد والديكتاتورية والفاشية في أحوال كثيرة.

وخلال الأيام الأخيرة كانت القصة الذائعة هي سقوط براويز مشرف في باكستان واستقالته من رئاسة الدولة، وكان من أهم ما ورد عليها من تعليقات ذلك المقال الذى كتبه الدكتور سعد الدين إبراهيم في صحيفة «المصرى اليوم» الغراء يوم السبت الماضي عندما أرجع فشل العسكر إلى الديكتاتورية والاعتماد على قضية مثل فلسطين أو كشمير في تعبئة الجماهير ثم الفشل في الإدارة الاقتصادية وحتى الأمنية للبلاد.

وفي الحقيقة فإنه لا توجد نية هنا لمناقشة هذه الحجج، بل ربما نضيف أننا نشارك الرأي في معظمها، وكثيرا ما قمنا بالكتابة عنها، وهي في العموم ذائعة داخل الفكر الديمقراطي العربي والذي خلص نفسه من قضية الاستبداد كلها بإلقاء تبعاتها على العسكر. ولكن المعضلة في هذا المنطق تقع في المسكوت عنه، وهو كيف جاء العسكر إلى الحكم في المقام الأول، ولماذا استمروا لسنوات طويلة. وفي بعض البلدان مثل باكستان والسودان ونيجيريا، ونضيف لها موريتانيا الآن، عاشت في دورات كاملة بين الحكم المدني ـ والديمقراطي ـ والحكم العسكري بحيث تسلم كل واحدة منها الحكم للأخرى بعد فشلها في إنجاز المهام القومية. فلماذا كان هذا الانتقال، ولماذا لم يستمر المدنيون في الحكم، ولماذا لم تتحرك الجماهير لحماية النظم المدنية عندما انقلب عليها العسكر، بل على العكس لماذا خرجت الجماهير إلى الشارع لتأييد الحكم الجديد؟!

وأذكر أنني قمت بزيارة لباكستان في عام 1998 في بعثة صحفية لمؤسسة الأهرام بقيادة الأستاذ إبراهيم نافع رئيس التحرير في ذلك الوقت، وجرت مقابلات صحفية وبحثية مع العديد من الشخصيات والمؤسسات الباكستانية كان من بينهم نواز شريف رئيس الوزراء. وكان واضحا لنا جميعا في هذه الرحلة أن هناك عددا من الخصائص التي تميز النخبة المدنية الباكستانية: أولها تعريف باكستان كدولة ومجتمع بأنها ذلك الكيان الذي يكره الهند حيث كانت لدينا صعوبة هائلة في الحديث عن باكستان نفسها؛ تماما كما هو الحال في العالم العربي حيث ينتقل الحديث في أي موضوع وفي كل مرة إلى تناول إسرائيل ومستوطناتها وعدوانها حتى ولو كنت تتحدث عن أسباب اختفاء حليب الأطفال من الأسواق.

وثانيها، أن أركان النخبة تكره بعضها البعض أكثر مما تكره العسكر أو أيا من القوى المضادة للديمقراطية؛ وعندما كنا هناك كانت نار الكراهية بين معسكري نواز شريف وبنازير بوتو أكثر اشتعالا من كل نار أخرى بما فيها تلك القوى الأصولية المتطرفة التي كانت تستعد للسيطرة على باكستان من الداخل. وهذه الكراهية بين المعسكرين لا تزال باقية حتى الآن وتظهر في شكل مناورات ومزايدات سياسية يغطيها حتى الآن أن العودة إلى الحكم وإطاحة مشرف لا تزال قريبة.

وثالثها أن الفساد كان ينخر في جسد الطبقة المدنية حتى النخاع، وفي دراسة أجراها باحث باكستاني في ذلك الوقت للمقارنة بين باكستان ومصر توصل إلى أن بناء «كوبري» في باكستان يتكلف ثلاثة أضعاف تكلفته في القاهرة ـ غير الخالية من الفساد ذاتها ـ بسبب أن الفساد في باكستان قد فاق كل الحدود المعروفة في العالم الثالث. وهذه النقطة تحديدا كثيرا ما تكون هي البوابة التي يدخل منها العسكر إلى السلطة مرة أخرى، وكانت هي التي تصدرت بيانات الانقلابات العسكرية في باكستان وموريتانيا والسودان ونيجيريا.

ورابعها أن قدسية ومركزية الدولة ككيان اجتماعي مهم للجماعة البشرية كثيرا ما تفقد أهميتها ومكانتها ومهابتها أيضا تحت حكم المدنيين وفي ظل الديمقراطية. فخلال الأعوام الأخيرة، وتحت الظلال الديمقراطية والتوسع في الحريات العامة وجد الكثير من القوى الإسلامية في الأمر فرصة لتشكيل ميليشيات سياسية بدلا عن الأحزاب السياسية، وعندما تحين الفرصة تشكيل ميليشيات عسكرية تنافس الجيش والسلطات الأمنية تحت رايات أسباب شتى منها كشمير وفلسطين وما يستجد من قضايا مصيرية. وفي أثناء وجودنا عام 1998 في باكستان صرح لنا وزير الداخلية آنذاك بأنه توجد أكثر من مليون قطعة سلاح في الشارع الباكستاني، وهذا المليون ليس مجرد بنادق أو مسدسات وإنما أنواع مختلفة من الأسلحة الخفيفة والثقيلة. والغريب أن مثل هذا التوسع الجاري في القوى الفاشية في ظل الديمقراطية والحكم المدني لا يقابله توسع يذكر في القوى الديمقراطية والليبرالية التي تنشغل بخلافاتها الشخصية وتقف عاجزة عن حل مشكلات التخلف والفقر لأن تركيزها على آليات الديمقراطية والحرية كثيرا ما يطغى على الغرض منها في زيادة كفاءة الدولة على خدمة أهدافها وتحقيق أغراضها.

وخامسها أن المزايدة على القضايا «المصيرية» أثناء الحكم المدني لا تختلف كثيرا عن ذات المزايدة التي تجرى أثناء الحكم العسكري، بل أنها كثيرا ما تأخذ أشكالا أكثر حدة؛ وتاريخيا لم تجرؤ حكومة باكستانية على حل صراعاتها التاريخية مع الهند بحيث تسمح للمجتمع الباكستاني الانطلاق وحل مشاكل التنمية المختلفة. ولم يكن ذلك راجعا لانعدام الرؤية، أو عدم إدراك المشكلة، ولكن كلما حاولت حكومة مدنية أن تقترب من الحل السلمي للقضايا المعلقة مع الهند منذ الاستقلال تشتعل الساحة الباكستانية باتهامات الخيانة والاستسلام التي تؤدي إلى التشدد ثم التراجع في النهاية. وما بين الحكم والمعارضة يضيع كل إدراك لحقيقة التغيرات في توازنات القوى المختلفة، ولا حتى التغيرات الجارية في النظام الدولي ومكانة الهند فيه خاصة خلال العقدين الأخيرين.

وسادسها أن الرؤية الأمنية ـ وليس التنموية ـ للدولة ظلت الصفة الغالبة للسياسات المدنية المختلفة؛ وفي ظل الحكومات المدنية المختلفة تمت عملية بناء السلاح النووي الباكستاني بينما ظلت حالة الفقر في باكستان على ما هي عليه. وبشكل من الأشكال فإن كل الحكومات المدنية الباكستانية زادت من موازنتها الدفاعية على حساب التنمية، وأدى ذلك إلى أن المؤسسة العسكرية، أصبحت بالفعل أقوى مؤسسات الدولة، وأكثرها قدرة، ومن ثم بات منطقيا في أوقات الأزمات أن تصبح هي البديل للنظام القائم.

كل ذلك لا يعني بأي معنى الدفاع عن الحكومات العسكرية في العالمين العربي والإسلامي، ولا يوجد هنا قصد أو نية لاعتبار ذلك أمرا مستحبا أو مطلوبا. ولكن المسألة هي أن الفكر الديمقراطي والمدني العربي ظل قصير النظر في معظم الأحوال، ومختزلا لدوام الاستبداد في قضية الحكم العسكري، وفي أحوال كثيرة لم يسع إلى فهم تلك الدورات أو الحلقات الجهنمية التي يتناوب فيها المدنيون والعسكريون الحكم أو تبين أسبابها وإرجاعها إلى التخلف العام للمجتمعات العربية، وضرورة التوصل إلى حل لمشكلاتها الأمنية التاريخية والتي تعرقل مسيرتها نحو الأمن والديمقراطية والتنمية بينما تفشل في حل هذه المشكلات عسكريا أو مدنيا.

وفي دول أخرى، فإن حل معضلة الدورات الجهنمية، أو حتى إشكالية الحكم العسكري، لم يكن ممكنا منذ البداية بدون تطوير فهم الدولة لذاتها وهويتها الخاصة بحيث تكون صادرة منها وليس مجرد كراهية لآخرين. ونحن هنا لا ننكر دور العامل الخارجي في تشكيل الدولة الوطنية، ولكن اعتراضنا هنا أن يكون ذلك هو العامل الوحيد، ولا توجد عوامل أخرى من السوق والهوية والمصالح المشتركة التي تجعل للدولة معنى في حد ذاتها. معنى ذلك أن نقطة البداية في مقاومة الحكم العسكري توجد في حل معضلات الحكم المدني الذي فشل خلال العقود الماضية في تحقيق الديمقراطية المستدامة والحكم المدني الدائم بأن يكون له قاعدة سياسية قادرة على الدفاع عنه، والأهم قاعدة فكرية وعقائدية تصير جزءا من الإطار الأخلاقي الذي يشكل شرعية الدول وبدونه لا يستطيع مجتمع أن يعيش. انه تحد هائل موجه إلى للنخبة المدنية فى باكستان، وبدونه دعونا ننتظر وقت الانقلاب العسكري القادم؟!