تحية السيد حسن الألفية لبيروت.. وتراثها كما يرويه صائب بك

TT

جاءت التحية الألفية لبيروت يوم الخميس 14/8/2008 من السيد حسن نصر الله الأمين العام لـ«حزب الله» لفتة طيبة من جانب سيد المقاومة ينطبق عليها المثل السعودي «ما تأخر مَن جاء». فرغم ان التحية متأخرة إلاَّ انها حدثت بعد ذلك وجاءت تخفف من اوجاع معنوية في نفوس البيارتة الذين بوغتوا باقتحامات لا موجب لها من جانب محازبين شيعة ينتسبون الى «حزب الله» و«حركة أمل» وحلفاء لهما تجاوز الجميع في هذه الاقتحامات الأصول وحقوق المواطَنة وأكدوا ان العصب الطائفي ما زال يتقدم على العصب الوطني.

ولأن السيد حسن من النوع الذي يجرح ويداوي أو بالأحرى يداوي اذا هو جَرَح، فإن التحية الألفية كانت اكثر من مرهم، بل لعلها اذا جاز القول كانت بلسماً من كلمات طالما تطلَّع البيارتة الى سماعها منه ونقيض مفردات «عمَّارية» و«موسوية» غير مستحبة. والتحية هذه وردت في خطابه لمناسبة الذكرى الثانية لـ«النصر الإلهي» على عدوان اسرائيل ايهود اولمرت في تموز (يوليو) 2006 على لبنان تقطيعاً لأوصاله وتدميراً لجسوره، وكان اللبنانيون، وبالذات البيارتة، وجبل لبنان المسيحي ـ الدرزي، خير حاضن للنزوح الجنوبي بعشرات الألوف جرّاء هذا العدوان، وجاءت على النحو الآتي: «تحضرني عودة النازحين الى قراهم وبساتينهم وبيوتهم كل اولئك الذين احتضنوهم ايام نزوحهم على المدن والقرى والمساجد والكنائس والمدارس والجامعات والبيوت والحدائق العامة، والبعض دائماً يطالبنا بتحية هنا او تحية هناك وأنا اسمع كثيراً من يقول نحن نطلب تحية لبيروت. اصلاً نحن لسنا خارج بيروت او اننا اجانب عن بيروت لنوجِّه تحية الى بيروت، ولكن ونحن من اهل بيروت، انا اليوم اقول تحية وألف تحية لبيروت العاصمة... عاصمة العروبة والوطن والمقاومة والصمود. والتحية لجبل لبنان بكل اقضيته وسكانه واهله وتياراته السياسية.. ». (الخ).

جاءت التحية الألفية لبيروت من سيد المقاومة متزامنة مع عدة محطات لافتة في المشهد اللبناني. فالحكومة السنيورية تشكلت وجاءت الولادة بعد مخاض عسير وغدت في نظر رئيس البرلمان نبيه بري «حكومة شرعية» بما يشبه المبايعة، كون الثقة التي نالتها كانت «ثقة مئوية»: مئة نائب منحوا الثقة. خمسة عارضوا. إثنان امتنعا. وهذه «الثقة المئوية» جاءت هي الأخرى ترضي البيارتة الذين بعد الهجمة النارية على رمز زعامتهم رفيق الحريري وابنه سعد الدين وعلى مناطقهم وبالذات قلاع تلك الزعامة فضلاً عن التهشيم الجارح لشخص فؤاد السنيورة واعتباره رئيس «حكومة غير شرعية»، مما يعني ان الطائفة السُنية لا شرعية لها، شعروا انهم امام مخطط الغاء سياسي لهم وبقوة السلاح.

كذلك جاءت التحية بعد ساعات من حالة انفراج للكابوس الناشئ عن وصول منسوب التأزم في العلاقة اللبنانية ـ السورية الى درجة الانفجار. ونعني بحالة الانفراج ما أسفرت عنه الزيارة الأولى لميشال سليمان كرئيس للجمهورية الى دمشق والتي أثمرت بداية حركة تصحيح للعلاقة اللبنانية ـ السورية حيث تم الاتفاق على اقامة علاقات دبلوماسية على مستوى السفير وهي خطوة مهمة قياساً بما مضى وخجولة بما هو مطلوب ومأمول وبالذات ما يتعلق بترسيم الحدود ونقل العلاقة من دهاليز الأساليب الأمنية الى رحاب الأصول الدبلوماسية والاقتصادية التي تخدم المصالح المشتركة.

وهذا الانفراج الذي نشير اليه يرتاح له اللبنانيون كما السوريون كمواطنين توَّاقين الى استعادة صفاء العلاقات. أما بالنسبة الى «حزب الله» فإنه يجعل قدرته على الحركة السياسية تأخذ مداها، ويزيح عن صدر الزعامة السياسية للشيعة متمثلة برئيس «حركة أمل» ورئيس البرلمان نبيه بري جبلاً ثقيلاً من الإحراج الذي يحول دون ان ينفِّذ ما هو مقتنع به وليس فقط ما هو بدافع الوفاء لسورية الابن بعد الأب مضطر للإصرار عليه، مثل حجب جلسة تتويج العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في انتظار أن تنضج ظروف بدء انحسار العزلة الدولية المفروضة على الحكم البشَّاري.

ومن محاسن الصدف ان الوزير الوحيد الذي رافق الرئيس ميشال سليمان في زيارته الى سورية كان فوزي صلوخ وزير الخارجية، وهذا، بقصد أو من دونه، كان في بعض جوانب حضوره يمثل الرئيس بري في هذه الزيارة. ويا ليت الرئيس سليمان تنبَّه الى الأمر وأشرك وزيراً سنياً في الوفد، ليس من صُلْب الحالة الحريرية المتحفظة حتى إشعار آخر على عودة العلاقة مع الحكم السوري من دون تصحيح للشوائب وبالذات ما يتعلق بكشف حقيقة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وفي الوقت نفسه ليس حاداً في موضوع العلاقة مع سورية. ومثل هذا التوصيف ينطبق على وزير الثقافة تمام سلاَّم البيروتي الأصيل الخارج حديثاً من «الفيتو» الحريري عليه، الوارث عن والده الرئيس الراحل صائب سلام الإيمان بأهمية العلاقة اللبنانية ـ السورية الخالية من الغش اللبناني والطمع السوري، فضلاً عن أن للوزير تمام خصوصية مضافة هي ان اخواله سوريون ومن النجوم المضيئة في الزمن السوري الذي كان للعائلات السياسية العريقة شأن فيه.

وهذا الاستحضار من جانبنا لذكْر صائب بك، كما المناداة الشعبية والرسمية له، يحملنا على الإشارة الى ان مهلة السنوات العشر بعد الوفاة التي تضمنتها وصيته لكي ينشر الابن تمام تراث والده بمحوريْه الرئيسييْن: المذكرات السياسية اللبنانية العامة، والعلاقات بينه وبين عدد من القادة العرب وأبرزهم الملك فهد بن عبد العزيز والرئيس جمال عبد الناصر، قاربت على الانتهاء، وعلى هذا الأساس سيتم النشر قريباً. وبالإضافة الى هذيْن المحوريْن تناهى الينا ان صائب بك كان كثير الاهتمام بالكتابة عن الشخصية البيروتية وتراث بيروت وتقاليد عاشتْها العاصمة في الزمن الغابر، ومنها ما يتعلق بـ«قبضايات البيارتة» وكشَّاشي الحمام فوق سطوح المنازل.. وخلاف ذلك. ولعل سيد المقاومة حسن نصر الله الذي هو في سن ابناء صائب بك، يدرك عند قراءة هذا «التراث السلامي» بقلم قائد مقاومة شعبية من نسيج آخر وفي زمن صراع على المنطقة يشبه في بعض جوانبه صراع الحاضر، سر اعتزاز البيروتي ببيروته.. سواء كان هذا البيروتي صميمياً مثل صائب سلام وآخرين، أو كان وافداً بانياً لها وساكناً فيها من اصل صيداوي وسعودي الهوى مثل الرئيس رفيق الحريري.